مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ لَا تَسۡفِكُونَ دِمَآءَكُمۡ وَلَا تُخۡرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ ثُمَّ أَقۡرَرۡتُمۡ وَأَنتُمۡ تَشۡهَدُونَ} (84)

قوله تعالى : { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون } .

اعلم أن هذه الآية تدل على نوع آخر من نعم الله عليهم وهو أنه تعالى كلفهم هذا التكليف وأنهم أقروا بصحته ثم خالفوا العهد فيه .

وأما قوله : { وإذ أخذنا ميثاقكم } ففيه وجوه . أحدها : أنه خطاب لعلماء اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، وثانيها : أنه خطاب مع أسلافهم ، وتقديره وإذ أخذنا ميثاق آبائكم . وثالثها : أنه خطاب للأسلاف وتقريع للأخلاف ومعنى : { أخذنا ميثاقكم } أمرناكم وأكدنا الأمر وقبلتم وأقررتم بلزومه ووجوبه .

أما قوله تعالى : { لا تسفكون دماءكم } ففيه إشكال ، وهو أن الإنسان ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه ، وإذا كان كذلك فلا فائدة في النهي عنه . والجواب عنه من أوجه ، أحدها : أن هذا الإلجاء قد يتغير كما ثبت في أهل الهند أنهم يقدرون في قتل النفس التخلص من عالم الفساد واللحوق بعالم النور والصلاح أو كثير ممن صعب عليه الزمان ، وثقل عليه أمر من الأمور ، فيقتل نفسه ، فإذا انتفى كون الإنسان ملجأ إلى ترك قتله نفسه صح كونه مكلفا به ، وثانيها : المراد لا يقتل بعضكم بعضا ، وجعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به نسبا ودينا وهو كقوله تعالى : { فاقتلوا أنفسكم } وثالثها : أنه إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه ، ورابعها : لا تتعرضوا لمقاتلة من يقتلكم فتكونوا قد قتلتم أنفسكم ، وخامسها : لا تسفكون دماءكم من قوامكم في مصالح الدنيا بهم فتكونون مهلكين لأنفسكم .

أما قوله تعالى : { ولا تخرجون أنفسكم } ففيه وجهان ، الأول : لا تفعلوا ما تستحقون بسببه أن تخرجوا من دياركم ، الثاني : المراد النهي عن إخراج بعضهم بعضا من ديارهم لأن ذلك مما يعظم فيه المحنة والشدة حتى يقرب من الهلاك .

أما قوله تعالى : { ثم أقررتم وأنتم تشهدون } ففيه وجوه ، أحدها : وهو الأقوى ، أي : ثم أقررتم بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه ، وأنتم تشهدون عليها كقولك فلان مقر على نفسه بكذا أي شاهد عليها ، وثانيها : اعترفتم بقبوله وشهد بعضكم على بعض بذلك لأنه كان شائعا فيما بينهم مشهورا . وثالثها : وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق ، ورابعها : الإقرار الذي هو الرضاء بالأمر والصبر عليه كأن يقال : فلان لا يقر على الضيم فيكون المعنى أنه تعالى يأمركم بذلك ورضيتم به فأقمتم عليه وشهدتم بوجوبه وصحته ، فإن قيل : لم قال : { أقررتم وأنتم تشهدون } والمعنى واحد ، قلنا فيه ثلاثة أقوال : الأول : أقررتم يعني أسلافكم وأنتم تشهدون الآن يعني على إقرارهم ، الثاني : أقررتم في وقت الميثاق الذي مضى وأنتم بعد ذلك تشهدون ، الثالث : أنه للتأكيد .