الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ لَا تَسۡفِكُونَ دِمَآءَكُمۡ وَلَا تُخۡرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ ثُمَّ أَقۡرَرۡتُمۡ وَأَنتُمۡ تَشۡهَدُونَ} (84)

قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ } : كقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ : لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ } [ البقرة : 83 ] .

قوله : { مِّن دِيَارِكُمْ } متعلِّقٌ بتُخْرِجُون ومِنْ لابتداءِ الغايةِ . ودِيار جمع دَار والأصل : دَوَر ، لأنها من دَار يدُور دَوَراناً ، وأصلُ دِيار : دِوار ، وإنما قُلِبت الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلَها ، واعتلالِها في الواحدِ . وهذه قاعدةٌ مطَّردة في كلِّ جَمْعٍ على فِعال صحيحِ اللام قد اعتلَّتْ عينُ مفردِه أو سَكَنَتْ حرفَ علةٍ نحوُ : دار ودِيار وثِياب ، ولذلك صَحًّ " رِواء " لاعتلال لامه ، و " طِوال " لتحرُّكِ عينِ مفردِه وهو طويلٍ ، فأمَّا " طِيال " في طِوال فشاذٌّ . وحكمُ المصدرِ حكمُ هذا نحو : قامَ قِياماً وصامَ صِياماً ، ولذلك صَحَّ " لِواذ " لِصحَّةِ فِعْلِه في قولِهم : لاوَذ ، وأمَّا " دَيَّار " فهو من لفظة الدَّار ، وأصلُه دَيْوار ، فاجتمع الياءُ والواوُ فأُعِلاَّ على القاعدةِ المعروفةِ فوزنُه : فَيْعال لا فَعَّال ، إذ لو كان فَعَّالاً لقيل : دَوَّار كصَوَّام وقَوَّام . والدارُ مجتمعُ القومِ من الأبنية . وقال الخليل : " كلُّ موضعٍ حَلَّه الناس ، وإن لم يكن أبنيةً " .

وقرئ : " تَسْفُكُون " بضم الفاء ، و " تُسَفِّكون " من سَفَّك مضعفاً ، " وتُسْفِكون " من أَسْفك الرباعي .

وقوله : { دِمَآءَكُمْ } يَحْتملُ الحقيقةَ وقد وُجِدَ مَنْ قَتَلَ نَفْسَه ، ويَحْتمل المجازَ وذلك من أوجه ، أحدها : إقامةُ السببِ مُقامَ المُسَبَّب ، أي : إذا سَفَكْتُمْ دمَ غيرِكم فقد سُفِكَ دَمُكم ، وهو قريبٌن قولهم : " القتلُ أنفى للقتل " . قال :

سَقَيْناهُمُ كأساً سَقَوْنا بمثلِها *** ولكنهم كانُوا على الموتِ أَصْبَرَا

وقيل : " المعنى : لا يَسْفِك بعضُكم دمَ بعض " واختاره الزمخشري . وقيل : " لا تسفِكوها بارتكابكم ما يُوجِبُ سَفْكَها كالارتداد ونحوه " .

قوله : { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ } قال أبو البقاء : " فيه وجهان ، أحدُهما أنَّ " ثُمَّ " على بابِها في إفادَةِ العَطْفِ والتراخي . والمعطوفُ عليه محذوفٌ تقديرُه : فَقَبِلْتُم ثم أَقْررتم . والثاني : أن تكونَ " ثُمَّ " جاءَتْ لترتيبِ الخبرِ لا لترتيبِ المُخْبَر عنه ، كقوله تعالى : { ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ } [ يونس : 46 ] .

قوله : { وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } كقوله : { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } [ البقرة : 83 ] .