مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَمِنَ ٱلشَّيَٰطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُۥ وَيَعۡمَلُونَ عَمَلٗا دُونَ ذَٰلِكَۖ وَكُنَّا لَهُمۡ حَٰفِظِينَ} (82)

الإنعام الثاني : قوله تعالى : { ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : المراد أنهم يغوصون له في البحار فيستخرجون الجواهر ويتجاوزون ذلك إلى الأعمال والمهن وبناء المدن والقصور واختراع الصنائع العجيبة كما قال : { يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان } وأما الصناعات فكاتخاذ الحمام والنورة والطواحين والقوارير والصابون .

المسألة الثانية : قوله : { ومن الشياطين من يغوصون له } يعني وسخرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له ، فيكون في موضع النصب نسقا على الريح قال الزجاج ويجوز أن يكون في موضع رفع من وجهين : أحدهما : النسق على الريح ، وأن يكون المعنى : ولسليمان الريح وله من يغوصون له من الشياطين ، ويجوز أن يكون رفعا على الابتداء ويكون له هو الخبر .

المسألة الثالثة : يحتمل أن يكون من يغوص منهم هو الذي يعمل سائر الأعمال ، ويحتمل أنهم فرقة أخرى ويكون الكل داخلين في لفظة من وإن كان الأول هو الأقرب .

المسألة الرابعة : ليس في الظاهر إلا أنه سخرهم ، لكنه قد روى أنه تعالى سخر كفارهم دون المؤمنين وهو الأقرب من وجهين : أحدهما : إطلاق لفظ الشياطين . والثاني : قوله : { وكنا لهم حافظين } فإن المؤمن إذا سخر في أمر لا يجب أن يحفظ لئلا يفسد ، وإنما يجب ذلك في الكافر .

المسألة الخامسة : في تفسير قوله : { وكنا لهم حافظين } وجوه : أحدها : أنه تعالى وكل بهم جمعا من الملائكة أو جمعا من مؤمني الجن . وثانيها : سخرهم الله تعالى بأن حبب إليهم طاعته وخوفهم من مخالفته . وثالثها : قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد وسلطانه مقيم عليهم يفعل بهم ما يشاء ، فإن قيل وعن أي شيء كانوا محفوظين قلنا فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه تعالى كان يحفظهم عليه لئلا يذهبوا ويتركوه . وثانيها : قال الكلبي كان يحفظهم من أن يهيجوا أحدا في زمانه . وثالثها : كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوا فكان دأبهم أنهم يعملون بالنهار ثم يفسدونه في الليل .

المسألة السادسة : سأل الجبائي نفسه ، وقال : كيف يتهيأ لهم هذه الأعمال وأجسامهم رقيقة لا يقدرون على عمل الثقيل ، وإنما يمكنهم الوسوسة ؟ وأجاب بأنه سبحانه كثف أجسامهم خاصة وقواهم وزاد في عظمهم ليكون ذلك معجزا لسليمان عليه السلام ، فلما مات سليمان ردهم الله إلى الخلقة الأولى لأنه لو بقاهم على الخلقة الثانية لصار شبهة على الناس ، ولو ادعى متنبي النبوة وجعله دلالة لكان كمعجزات الرسل فلذا ردهم إلى خلقتهم الأولى ، واعلم أن هذا الكلام ساقط من وجوه : أحدها : لم قلت إن الجن من الأجسام ، ولم لا يجوز وجود محدث ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز ويكون الجن منهم ؟ فإن قلت : لو كان الأمر كذلك لكان مثلا للباري تعالى ، قلت : هذا ضعيف لأن الاشتراك في اللوازم الثبوتية لا يدل على الاشتراك في الملزومات فكيف اللوازم السلبية ، سلمنا أنه جسم ، لكن لا يجوز حصول القدرة على هذه الأعمال الشاقة في الجسم اللطيف ، وكلامه بناء على البنية شرط وليس في يده إلا الاستقراء الضعيف . سلمنا أنه لا بد من تكثيف أجسامهم لكن لم قلت بأنه لا بد من ردها إلى الخلقة الأولى بعد موت سليمان عليه السلام ، فإن قال : لئلا يفضي إلى التلبيس قلنا التلبيس غير لازم ، لأن المتنبي إذا جعل ذلك معجزة لنفسه فللمدعي أن يقول : لم لا يجوز أن يقال إن قوة أجسادهم كانت معجزة لنبي آخر قبلك ، ومع قيام هذا الاحتمال لا يتمكن المتنبي من الاستدلال به ، واعلم أن أجسام هذا العالم إما كثيفة أو لطيفة ، أما الكثيف فأكثف الأجسام الحجارة والحديد وقد جعلهما الله تعالى معجزة لداود عليه السلام ، فأنطق الحجر ولين الحديد وكل واحد منهما كما يدل على التوحيد والنبوة يدل على صحة الحشر ، لأنه لما قدر على إحياء الحجارة فأي بعد في إحياء العظام الرميمة ، وإذا قدر على أن يجعل في إصبع داود عليه السلام قوة النار مع كون الإصبع في نهاية اللطافة ، فأي بعد في أن يجعل التراب اليابس جسما حيوانيا ، وألطف الأشياء في هذا العالم الهواء والنار ، وقد جعلهما الله معجزة لسليمان عليه السلام ، أما الهواء فقوله تعالى : { فسخرنا له الريح } وأما النار فلأن الشياطين مخلوقون منها وقد سخرهم الله تعالى فكان يأمرهم بالغوص في المياه والنار تنطفئ بالماء وهم ما كان يضرهم ذلك ، وذلك يدل على قدرته على إظهار الضد من الضد .