البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمِنَ ٱلشَّيَٰطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُۥ وَيَعۡمَلُونَ عَمَلٗا دُونَ ذَٰلِكَۖ وَكُنَّا لَهُمۡ حَٰفِظِينَ} (82)

الغوص : الدخول تحت الماء لاستخراج ما فيه .

قال الشاعر :

أو درة صدفية غواصها بهج *** متى يرها يهل ويسجد

ولما ذكر تعالى تسخير الريح له وهي جسم شفاف لا يعقل وهي لا تدرك بالبصر ذكر تسخير الشياطين له ، وهم أجسام لطيفة تعقل والجامع بينهما أيضاً سرعة الانتقال ألا ترى إلى قوله { قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } { ومن } في موضع نصب أي وسخرنا { من الشياطين من يغوصون } أو في موضع رفع على الابتداء ، والخبر في الجار والمجرور قبله .

والظاهر أن { من } موصولة .

وقال أبو البقاء : هي نكرة موصوفة ، وجمع الضمير في { يغوصون } حملاً على معنى { من } وحسن ذلك تقدم جمع قبله كما قال الشاعر :

وإن من النسوان من هي روضة *** يهيج الرياض قبلها وتصوح

لما تقدم لفظ النسوان حمل على معنى من فأنث ، ولم يقل من هو روضة والمعنى { يغوصون } له في البحار لاستخراج اللآلىء ، ودل الغوص على المغاص فيه وعلى ما يغاص لاستخراجه وهو الجوهر ، فلذلك لم يذكر أو قال له أي لسليمان لأن الغائص قد يغوص لنفسه ولغيره ، فذكر أن الغوص ليس لأنفسهم إنما هو لأجل سليمان وامتثالهم أمره والإشارة بذلك إلى الغوص أي دون الغوص من بناء المدائن والقصور كما قال { يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل } الآية .

وقيل : الحمام والنورة والطاحون والقوارير والصابون من استخراجهم .

{ وكنا لهم حافظين } أي من أن يزيغوا عن أمره أو يبدّلوا أو يغيروا أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه .

وقيل : { حافظين } أن يهيجوا أحداً في زمان سليمان .

وقيل { حافظين } حتى لا يهربوا .

قيل : سخر الكفار دون المؤمنين ، ويدل عليه إطلاق لفظ { الشياطين } وقوله { حافظين } والمؤمن إذا سخر في أمر لا يحتاج إلى حفظ لأنه لا يفسد ما عمل ، وتسخير أكثف الأجسام لداود وهو الحجر إذ أنطقه بالتسبيح والحديد إذ جعل في أصابعه قوة النار حتى لان له الحديد ، وعمل منه الزرد ، وتسخير ألطف الأجسام لسليمان وهو الريح والشياطين وهم من نار .

وكانوا يغوصون في الماء والماء يطفىء النار فلا يضرهم ، دليل واضح على باهر قدرته وإظهار الضد من الضد وإمكان إحياء العظم الرميم ، وجعل التراب اليابس حيواناً فإذا أخبر به الصادق وجب قبوله واعتقاد وجوده انتهى .