مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِدۡرِيسَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ كُلّٞ مِّنَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (85)

القصة السابعة

قوله تعالى :{ وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين ، وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين }

اعلم أنه تعالى لما ذكر صبر أيوب عليه السلام وانقطاعه إليه أتبعه بذكر هؤلاء فإنهم كانوا أيضا من الصابرين على الشدائد والمحن والعبادة ، أما إسماعيل عليه السلام فلأنه صبر على الإنقياد للذبح ، وصبر على المقام ببلد لا زرع فيه ولا ضرع ولا بناء ، وصبر في بناء البيت ، فلا جرم أكرمه الله تعالى وأخرج صلبه خاتم النبيين ، وأما إدريس عليه السلام فقد تقدمت قصته في سورة مريم عليها السلام ، قال ابن عمر رضي الله عنهما : «بعث إلى قومه داعيا لهم إلى الله تعالى فأبوا فأهلكهم الله تعالى ورفع إدريس إلى السماء الرابعة » وأما ذوا الكفل ففيه مسائل :

المسألة الأولى : فيها بحثان :

الأول : قال الزجاج الكفل في اللغة الكساء الذي يجعل على عجز البعير ، والكفل أيضا النصيب واختلفوا في أنه لم سمي بهذا الاسم على وجوه . أحدها : وهو قول المحققين أنه كان له ضعف عمل الأنبياء عليهم السلام في زمانه وضعف ثوابهم . وثانيها : قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية : «إن نبيا من أنبياء بني إسرائيل آتاه الله الملك والنبوة ثم أوحى الله إليه أني أريد قبض روحك ، فأعرض ملكك على بني إسرائيل ، فمن تكفل لك أنه يصلي بالليل حتى يصبح ويصوم بالنهار فلا يفطر ، ويقضي بين الناس فلا يغضب فادفع ملكك إليه ، فقام ذلك النبي في بني إسرائيل وأخبرهم بذلك ، فقام شاب وقال : أنا أتكفل لك بهذا . فقال في القوم : من هو أكبر منك فاقعد ثم صاح الثانية والثالثة فقام الرجل وقال : أتكفل لك بهذه الثلاث فدفع إليه ملكه ، ووفى بما ضمن . فحسده إبليس فأتاه وقت ما يريد أن يقيل ، فقال : إن لي غريما قد مطلني حقي وقد دعوته إليك فأبى فأرسل معي من يأتيك به ، فأرسل معه وقعد حتى فاتته القيلولة ودعا إلى صلاته وصلى ليله إلى الصباح ، ثم أتاه من الغد عند القيلولة فقال : إن الرجل الذي استأذنتك له في موضع كذا فلا تبرح حتى آتيك به ، فذهب وبقي منتظرا حتى فاتته القيلولة ، ثم أتاه فقال له : هرب مني فمضى ذو الكفل إلى صلاته فصلى ليلته حتى أصبح ، فأتاه إبليس وعرفه نفسه ، وقال له : حسدتك على عصمة الله إياك فأردت أن أخرجك حتى لا تفي بما تكفلت به ، فشكره الله تعالى على ذلك ونبأه ، فسمي ذا الكفل » . وعلى هذا فالمراد بالكفل هنا الكفالة . وثالثها : قال مجاهد : لما كبر اليسع عليه السلام ، قال : لو أني استخلفت رجلا على الناس في حياتي حتى أنظر كيف يعمل ، فجمع الناس وقال من يتقبل مني حتى استخلفه ثلاثا يصلي بالليل ويصوم بالنهار ويقضي فلا يغضب ، وذكر علي كرم الله وجهه نحو ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه من فعل إبليس وتفويته عليه القيلولة ثلاثة أيام . وزاد أن ذا الكفل قال للبواب في اليوم الثالث : قد غلب علي النعاس فلا تدعن أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام فإني قد شق علي النعاس ، فجاء إبليس فلم يأذن له البواب فدخل من كوة في البيت وتسور فيها فإذا هو يدق الباب من داخل ، فاستيقظ الرجل وعاتب البواب ، فقال : أما من قبلي فلم تؤت . فقام إلى الباب فإذا هو مغلق وإبليس على صورة شيخ معه في البيت ، فقال له : أتنام والخصوم على الباب . فعرفه فقال : أنت إبليس ، قال نعم أعييتني في كل شيء ففعلت هذه الأفعال لأغضبك فعصمك الله مني . فسمي ذا الكفل لأنه قد وفى بما تكفل به .

المسألة الثانية : قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ومجاهد ذو الكفل لم يكن نبيا ولكن كان عبدا صالحا ، وقال الحسن والأكثرون إنه من الأنبياء عليهم السلام وهذا أولى الوجوه : أحدها : أن ذا الكفل يحتمل أن يكون لقبا وأن يكون اسما ، والأقرب أن يكون مفيدا ، لأن الاسم إذا أمكن حمله على ما يفيد فهو أولى من اللقب . إذا ثبت هذا فنقول الكفل هو النصيب والظاهر أن الله تعالى إنما سماه بذلك على سبيل التعظيم ، فوجب أن يكون ذلك الكفل هو كفل الثواب فهو إنما سمي بذلك لأن عمله وثواب عمله كان ضعف عمل غيره وضعف ثواب غيره ولقد كان في زمنه أنبياء على ما روي ومن ليس بنبي لا يكون أفضل من الأنبياء . وثانيها : أنه تعالى قرن ذكره بذكر إسماعيل وإدريس والغرض ذكر الفضلاء من عباده ليتأسى بهم وذلك يدل على نبوته . وثالثها : أن السورة ملقبة بسورة الأنبياء فكل من ذكره الله تعالى فيها فهو نبي .

المسألة الثالثة : قيل إن ذا الكفل زكريا وقيل يوشع وقيل إلياس ، ثم قالوا خمسة من الأنبياء سماهم الله تعالى باسمين : إسرائيل ويعقوب ، إلياس وذو الكفل ، عيسى والمسيح ، يونس وذو النون ، محمد وأحمد .

وأما قوله تعالى : { كل من الصابرين } أي على القيام بأمر الله تعالى واحتمال الأذى في نصرة دينه .