اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمِنَ ٱلشَّيَٰطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُۥ وَيَعۡمَلُونَ عَمَلٗا دُونَ ذَٰلِكَۖ وَكُنَّا لَهُمۡ حَٰفِظِينَ} (82)

قوله :{ مَن يَغُوصُونَ } يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة وعلى كلا التقديرين فموضعها إمَّا نصب نسقاً على الريح ، أي : وسخرنا{[29220]} له من يغوصون ، أو رفع على الابتداء والخبر في الجار قبله{[29221]} وجمع الضمير حملاً على معنى «مَنْ »{[29222]} ، وحسن ذلك تقدم الجمع في قوله «الشَّيَاطِينَ »{[29223]} فلما ترشح جانب المعنى روعي ، ونظيره قوله :

3731- وَإنَّ من النِّسْوَانِ مَنْ هِي روضة *** تهيج الرياض{[29224]} قبلها وتصوح{[29225]}

راعى التأنيث لتقدم قوله : وإنَّ من النسوان . و «دُونَ ذَلِكَ » صفة ل «عَمَلاً »{[29226]} .

فصل

يحتمل أن يكون{[29227]} من يغوصون منهم هو الذي يعمل سائر الأعمال ، ويحتمل أنهم فرقة أخرى ، ويكون الكل داخليتن في لفظة «مَنْ » والأول أقرب . وظاهر الآية أنه{[29228]} سخرهم لكنه قد روي أنه تعالى سخر كفارهم دون المؤمنين وهو الأقرب من وجهين :

أحدهما : إطلاق لفظ الشياطين .

والثاني : قوله : { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } فإنَّ المؤمن إذا سخر في أمر لا يجب أن يحفظ لئلا يفسد ، وإنما يجب ذلك في الكافر{[29229]} . ومعنى «يَغُوصُونَ » أي : يدخلون تحت الماء ، فيخرجون له من قعر البحر الجواهر { وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك } أي : دون الغوص ، وهو ما ذكره تعالى في قوله : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ }{[29230]} {[29231]} الآية . { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } حتى لا يخرجوا من أمره{[29232]} .

وقيل : وكل بهم جمعاً من الملائكة وجمعاً من المؤمنين الجن . وقال ابن عباس : إنَّ سلطانه مقيم يفعل بهم ما يشاء . وفي كونهم محفوظين ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه تعالى كان يحفظهم لئلا يذهبوا .

وثانيها : قال الكلبي : كان يحفظهم من أن يهيجوا أحداً{[29233]} في زمانه .

وثالثها : قال الزجاج : كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوا{[29234]} ، وكان دأبهم أن يعملوا{[29235]} بالنهار{[29236]} ثم يفسدونه بالليل{[29237]} .

روي أن سليمان كان إذا بعث شيطاناً مع إنسان ليعمل له عملاً قال له : إذا فرغ من عمله قبل الليل اشغله بعمل آخر لئلا يفسد ما عمل وكان من عادة الشياطين أنهم إذا فرغوا من العمل ولم يشتغلوا بعمل آخر خربوا ما عملوه{[29238]} وأفسدوه{[29239]} .

فصل{[29240]}

سأل الجبائي نفسه ، وقال : كيف يتهيأ لهم هذه الأعمال وأجسامهم دقيقة لا يقدرون على عمل الثقيل ، وإنما يمكنهم الوسوسة ؟ وأجاب بأنه -سبحانه- كثف أجسامهم خاصة وقواهم وزاد في عظمهم ليكون{[29241]} ذلك معجزة لسليمان ، فلما مات سليمان -عليه السلام-{[29242]} ردهم إلى الخلقة الأولى ، لأنه لو بقاهم على الخلقة الثانية لصار شبهة على الناس ولو ادعى مثبت النبوة وجعله دلالة ، لكان كمعجزات الرسل ، فلذلك ردهم إلى خلقهم{[29243]} الأول .

قال ابن الخطيب : وهذا الكلام ساقط من وجوه :

أحدها : لم قلتم إنّ الجن من الأجسام ، ولم يجوز وجود محدث ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز ، ويكون الجن منهم ؟ فإن قلت : لو كان الأمر كذلك لكان مثلاً للباري تعالى . قلت : هذا ضعيف لأنَّ الاشتراك{[29244]} في اللوازم الثبوتية لا يدل على الاشتراك في اللزومات ، فكيف اللوازم السلبية .

سلمنا أنه جسم لكن لم{[29245]} يجوز حصول القدرة على هذه الأعمال الشاقة في الجسم اللطيف ، وكلامه بناء على البنية شرط وليس في يده إلا الاستقراء الضعيف سلمنا أنه لا بُدّ من تكثيف أجسامهم ، لكن لم قلتم : بأنه لا بدّ من ردها إلى الخلقة الأولى بعد موت سليمان .

وقوله : بأنه يفضي إلى التلبيس ، قلنا : التلبيس غير لازم ، لأن النبي إذا جعل ذلك معجزة لنفسه فللمدعوّ أن يقول : لم لا يجوز أن يقال : إن قوة أجسامهم{[29246]} كانت معجزة لنبي آخر . ومع قيام هذا الاحتمال لا يتمكن المتنبي من الاستدلال به . واعلم أن أجسام هذا العالم إما كثيفة أو لطيفة . أما الكثيف{[29247]} فأكثف الأجسام الحجارة والحديد ، وقد جعلهما الله تعالى معجزة لداود -عليه السلام-{[29248]} قوة النار مع كون الإصبع في نهاية اللطافة ، فأي بعد أنْ يجعل التراب اليابس جسماً حيوانياً . وألطف الأشياء في هذا العالم الهواء والنار ، وقد جعلها الله -تعالى- معجزة لسليمان- عليه السلام{[29249]} ، أما الهواء فقوله : { فَسَخَّرْنَا{[29250]} لَهُ الريح }{[29251]} . وأما النار فلأنَّ الشياطين مخلوقين{[29252]} من النار ، وقد سخرهم الله -تعالى- له ، ثم كان يأمرهم بالغوص في المياه ، والنار تطفأ بالماء ، ولم تكن تضرهم وذلك يدل على قدرته على إظهار الضد من الضد .


[29220]:في ب: أو سخرنا. وهو تحريف.
[29221]:انظر التبيان 2/934، البحر المحيط 6/333.
[29222]:"من" تكون بلفظ واحد للمذكر والمؤنث مفردا كان أو مثنى أو مجموعا والأكثر في ضميرها اعتبار اللفظ نحو {ومنهم من يستمع إليك} [الأنعام: 25]، ويجوز اعتبار المعنى نحو {ومنهم من يستمعون إليك} [يونس: 43]، ما لم يحصل من مطابقة اللفظ لبس نحو: أعط من سألتك، ولا تقل من سألك، أو قبح نحو: من هي حمراء أمك. وما لم يعضد المعنى سابق فيختار مراعاة المعنى نحو: وإن من النسوان من هي روضة. وإذا اجتمع في (من) ضمائر جاز في بعضها مراعاة اللفظ وبعضها مراعاة المعنى، والأحسن البداءة بالحمل على اللفظ نحو قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين} [البقرة: 8]. ويجوز البداءة بالمعنى كقولك: من قامت وقعد، وشرط قوم لجوازه وقوع الفصل بين الجملتين نحو من يقومون في غير شيء وينظر في أمرنا قومك وعزي للكوفيين. وإذا اعتبر اللفظ ثم المعنى جاز العودة إلى اعتبار اللفظ بقلة قال تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين. وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا} [لقمان: 6،7]. انظر شرح التصريح 1/140، الهمع 1/87.
[29223]:انظر البحر المحيط 6/333.
[29224]:في ب: الرياح.
[29225]:البيت من بحر الطويل لم أهتد إلى قائله، وهو في البحر المحيط 6/333، شرح التصريح 1/140، حاشية الصبان على شرح الأشموني 1/153.
[29226]:انظر التبيان 2/924.
[29227]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/202.
[29228]:في ب: أن. وهو تحريف.
[29229]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/202.
[29230]:من قوله تعالى: {يعلمون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13].
[29231]:انظر البغوي 5/508-509.
[29232]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/202.
[29233]:أحدا: سقط من ب.
[29234]:معاني القرآن وإعرابه 3/401.
[29235]:في الأصل: يعملون. وهو تحريف.
[29236]:بالنهار: تكملة ليست بالمخطوط.
[29237]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/202.
[29238]:في ب: ما عملوا.
[29239]:انظر البغوي 5/509.
[29240]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/202-302.
[29241]:في ب: فيكون.
[29242]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[29243]:في ب: حلقهم. وهو تحريف.
[29244]:في الأصل: الاشتراك. وهو تصحيف.
[29245]:في ب: لم لا.
[29246]:في ب: أجسادهم.
[29247]:في ب: الكثيفة.
[29248]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[29249]:في النسختين: وسخرنا. وهو تحريف.
[29250]:في النسختين: وسخرنا. وهو تحريف.
[29251]:من قوله تعالى: {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب} [ص: 36].
[29252]:في الأصل: مخلوقين.