مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ} (99)

أما قوله : { حتى إذا جاء أحدهم الموت } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قال صاحب الكشاف : حتى متعلق بيصفون أي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم مستعينا بالله على الشيطان أنه يستزله عن الحلم والله أعلم .

المسألة الثانية : اختلفوا في قوله : { حتى إذا جاء أحدهم الموت } فالأكثرون على أنه راجع إلى الكفار وقال الضحاك كنت جالسا عند ابن عباس ، فقال من لم يزك ولم يحج سأل الرجعة عند الموت ، فقال واحد إنما يسأل ذلك الكفار فقال ابن عباس رضي الله عنهما أنا أقرأ عليك به قرآنا { وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء كان يمنعه من حقه بين يديه فعنده يقول رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت » . والأقرب هو الأول إذا عرف المؤمن منزلته في الجنة فإذا شاهدها لا يتمنى أكثر منها ، ولولا ذلك لكان أدونهم ثوابا يغتم بفقد ما يفقد من منزلة غيره وأما ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من قوله : { وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت } فهو إخبار عن حال الحياة في الدنيا لا عن حال الثواب فلا يلزم على ما ذكرنا .

المسألة الثالثة : اختلفوا في وقت مسألة الرجعة فالأكثرون على أنه يسأل في حال المعاينة لأنه عندها يضطر إلى معرفة الله تعالى وإلى أنه كان عاصيا ويصير ملجأ إلى أنه لا يفعل القبيح بأن يعلمه الله تعالى أنه لو رامه لمنع منه ، ومن هذا حاله يصير كالممنوع من القبائح بهذا الإلجاء فعند ذلك يسأل الرجعة ، ويقول : { رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت } وقال آخرون بل يقول ذلك عند معاينة النار في الآخرة ، ولعل هذا القائل إنما ترك ظاهر هذه الآية لما أخبر الله تعالى في كتابه عن أهل النار في الآخرة أنهم يسألون الرجعة لكن ذلك مما لا يمنع أن يكونوا سائلين الرجعة في حال المعاينة ، والله تعالى يقول : { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون } فعلق قولهم هذا بحال حضور الموت وهو حال المعاينة فلا وجه لترك هذا الظاهر .

المسألة الرابعة : اختلفوا في قوله سبحانه وتعالى : { ارجعون } من المراد به ؟ فقال بعضهم : الملائكة الذين يقبضون الأرواح وهم جماعة فلذلك ذكره بلفظ الجمع ، وقال آخرون بل المراد هو الله تعالى لأن قوله رب بمنزلة أن يقول يا رب وإنما ذكر بلفظ الجمع للتعظيم كما يخاطب العظيم بلفظه فيقول فعلنا وصنعنا وقال الشاعر :

فإن شئت حرمت النساء سواكم *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ومن يقول بالأول يجعل ذكر الرب للقسم ، فكأنه عند المعاينة قال بحق الرب ارجعون ، وههنا سؤالات :

السؤال الأول : كيف يسألون الرجعة وقد علموا صحة الدين بالضرورة ، ومن الدين أن لا رجعة ؟ الجواب : أنه وإن كان كذلك فلا يمتنع أن يسألوه لأن الاستعانة بهذا الجنس من المسألة تحسن وإن علم أنه لا يقع فأما إرادته للرجعة فلا يمتنع أيضا على سبيل ما يفعله المتمني .