مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلَآ أَنسَابَ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ وَلَا يَتَسَآءَلُونَ} (101)

قوله تعالى : { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون } .

اعلم أنه سبحانه لما قال : { ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } ذكر أحوال ذلك اليوم فقال { فإذا نفخ في الصور } وفيه ثلاثة أقوال . أحدها : أن الصور آلة إذا نفخ فيها يظهر صوت عظيم ، جعله الله تعالى علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات ، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرن ينفخ فيه . وثانيها : أن المراد من الصور مجموع الصور ، والمعنى فإذا نفخ في الصور أرواحها وهو قول الحسن فكان يقرأ بفتح الواو والفتح والكسر عن أبي رزين وهو حجة لمن فسر الصور بجمع صورة . وثالثها : أن النفخ في الصور استعارة والمراد منه البعث والحشر ، والأول أولى للخبر وفي قوله : { ثم نفخ فيه أخرى } دلالة على أنه ليس المراد نفخ الروح والإحياء لأن ذلك لا يتكرر .

أما قوله : { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } فمن المعلوم أنه سبحانه إذا أعادهم فالأنساب ثابتة لأن المعاد هو الولد والوالد ، فلا يجوز أن يكون المراد نفي النسب في الحقيقة بل المراد نفي حكمه . وذلك من وجوه . أحدها : أن من حق النسب أن يقع به التعاطف والتراحم كما يقال في الدنيا : أسألك بالله والرحم أن تفعل كذا . فنفى سبحانه ذلك من حيث إن كل أحد من أهل النار يكون مشغولا بنفسه وذلك يمنعه من الالتفات إلى النسب ، وهكذا الحال في الدنيا لأن الرجل متى وقع في الأمر العظيم من الآلام ينسى ولده ووالده . وثانيها : أن من حق النسب أن يحصل به التفاخر في الدنيا ، وأن يسأل بعضهم عن كيفية نسب البعض ، وفي الآخرة لا يتفرغون لذلك . وثالثها : أن يجعل ذلك استعارة عن الخوف الشديد فكل امرئ مشغول بنفسه عن بنيه وأخيه وفصيلته التي تؤويه فكيف بسائر الأمور ، قال ابن مسعود رضي الله عنه يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد وينادي مناد ألا إن هذا فلان فمن له عليه حق فليأت إلى حقه فتفرح المرأة حينئذ أن يثبت لها حق على أمها أو أختها أو أبيها أو أخيها أو ابنها أو زوجها { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } وعن قتادة لا شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه مخافة أن يثبت له عليه شيء ثم تلا { يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه } وعن الشعبي قال : قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله ، أما نتعارف يوم القيامة ، أسمع الله تعالى يقول : { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } فقال عليه الصلاة والسلام : «ثلاث مواطن تذهل فيها كل نفس ؛ حين يرمي إلى كل إنسان كتابه ، وعند الموازين ، وعلى جسر جهنم » . وطعن بعض الملحدة فقال قوله : { ولا يتساءلون } وقوله : { ولا يسأل حميم حميما } يناقض قوله : { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } وقوله : { يتعارفون بينهم } الجواب عنه من وجوه . أحدها : أن يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة ففيه أزمنة وأحوال مختلفة فيتعارفون ويتساءلون في بعضها ، ويتحيرون في بعضها لشدة الفزع . وثانيها : أنه إذا نفخ في الصور نفخة واحدة شغلوا بأنفسهم عن التساؤل ، فإذا نفخ فيه أخرى أقبل بعضهم على بعض وقالوا : { يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمان } . وثالثها : المراد لا يتساءلون بحقوق النسب . ورابعها : أن قوله : { لا يتساءلون } صفة للكفار وذلك لشدة خوفهم .

أما قوله : { فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } فهو صفة أهل الجنة إذا دخلوها ، واعلم أنه سبحانه قد بين أن بعد النفخ في الصور تكون المحاسبة ، وشرح أحوال السعداء والأشقياء ، وقيل لما بين سبحانه أنه ليس في الآخرة إلا ثقل الموازين وخفتها ، وجب أن يكون كل مكلف لابد وأن يكون من أهل الجنة وأهل الفلاح أو من أهل النار فيبطل بذلك القول بأن فيهم من لا يستحق الثواب والعقاب أو من يتساوى له الثواب والعقاب .