اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ} (99)

قوله تعالى : { حتى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الموت } الآية في ( حَتَّى ) هذه أوجه :

أحدها : أنها غاية لقوله : «بِمَا يَصِفُونَ »{[33317]} .

والثاني : أنها غاية «لِكَاذِبُونَ »{[33318]} .

ويبين هذين الوجهين قول الزمخشري : «حَتَّى » يتعلق ب «يَصِفُونَ » أي : لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت ، والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد . ثم قال : أو على قوله : «وإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ »{[33319]} . قال شهاب الدين : قوله : ( أو على قوله كذا ) كلام محمول على المعنى ، إذ التقدير : «حَتَّى » معلقة على «يَصِفُونَ » أو على قوله : «لَكَاذِبُونَ » وفي الجملة فعبارته مشكلة{[33320]} .

الثالث : قال ابن عطية : «حَتَّى » في هذا الموضع{[33321]} حرف ابتداء ، ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف ، والأوَّل أبْيَن ، لأنّ ما بعدها هو المعنيّ به المقصود ( ذكره{[33322]} ){[33323]} .

قال أبو حيان : فتوهم ابن عطية أن «حَتَّى » إذا كانت حرف ابتداء لا تكون غاية ، وهي وإن كانت حرف ابتداء فالغاية معنى لا يفارقها ، ولم يبيّن الكلام المحذوف المقدر{[33324]} .

وقال أبو البقاء : ( حَتَّى ) غاية في معنى العطف{[33325]} . قال أبو حيّان : والذي يظهر لي{[33326]} أن قبلها جملة محذوفة تكون «حَتَّى » غاية لها يدل عليها ما قبلها ، التقدير : فلا أكون كالكفار الذين تهزمهم الشياطين ويحضرونهم حتى إذا جَاءَ ، ونظير حذفها قول الشاعر :

فَيَا عَجَبا حَتَّى كُليْبٌ تسُبُّني{[33327]} *** . . .

أي : يسبني الناس كُلهم حتى كليب إلاَّ أن في البيت دلّ ما بعدها عليها بخلاف الآية الكريمة{[33328]} .

قوله{[33329]} : { رَبِّ ارجعون } . في قوله : «ارْجِعُونِ » بخطاب الجمع ثلاثة أوجه :

أجودها : أنه على سبيل التعظيم{[33330]} كقوله :

فَإِنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ *** وَإِنْ شِئْتُ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً وَلاَ بَرْدَا{[33331]}

وقال الآخر :

أَلاَ فَارْحَمُونِي يَا إلهَ مُحَمَّدٍ{[33332]} *** . . .

وقد يؤخذ من هذا البيت ما يرّد على ابن مالك حيث قال : إنه لم نعلم أحداً أجاز للداعي أن يقول : يَا رَحْيَمُون قال : لئّلا يُوهم خلاف التوحيد ، وقد أخبر تعالى عن نفسه بهذه الصفة وشبهها للتعظيم في مواضع من كتابه الكريم كقوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }{[33333]} [ الحجر : 9 ] .

الثاني : أنه نادى ربه ثم خاطب ملائكة ربه بقوله : «ارْجِعُونِ »{[33334]} . ويجوز على هذا الوجه أن يكون على حذف مضاف ، أي : ملائكة ربي ، فحذف المضاف ثم التف إليه في عود الضمير كقوله{[33335]} : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا }{[33336]} [ الأعراف : 4 ] . ثم قال : { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ }{[33337]} [ الأعراف : 4 ] التفاتاً ل «أهل » المحذوف .

الثالث : أنّ ذلك يدل على تكرير الفعل كأنه قال : ارْجعنِي ارجعنِي{[33338]} نقله أبو البقاء{[33339]} وهو يشبه ما قالوه في قوله : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ }{[33340]} [ ق : 24 ] أنه بمعنى : أَلْقِ أَلْقِ ثنّى الفعل للدلالة{[33341]} على ذلك ، وأنشدوا :

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِل{[33342]} *** . . .

أي : قف قف .

فصل

اعلم أنّه تعالى أخبر أنَّ هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت فقال : { حتى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الموت ( قَالَ رَبِّ ارجعون } ){[33343]} ولم يقل : ارجعني ، وهو يسأل الله وحده الرجعة لما تقدّم في الإعراب{[33344]} . وقال الضحّاك{[33345]} : كنت جالساً عند ابن عباس فقال : مَنْ لَمْ يُزَكِّ ولم يَحُج سأل الرجعة عند الموت ، فقال رجل : إنما يسأل{[33346]} ذلك الكفار . فقال ابن عباس : أنا أقرأ عليك به قرآناً { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ }{[33347]} [ المنافقون : 10 ] .

وقال عليه السلام{[33348]} : «إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء كان يمنعه من حقه بين يديه فعنده يقول : { رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ{[33349]} } {[33350]} .

واختلفوا في وقت مسألة الرجعة ، فالأكثرون على أنه يسأل حال المعاينة وقيل : بل عند معاينة النار في الآخرة ، وهذا القائل إنَّما ترك ظاهر هذه الآية لمَّا أخبر الله - تعالى - عن أهل النار في الآخرة أنهم يسألون الرجعة {[33351]} .


[33317]:من الآية (96) السابقة.
[33318]:من الآية (90) السابقة.
[33319]:الكشاف 3/56.
[33320]:الدر المصون 5/93.
[33321]:في النسختين: هذه المواضع.
[33322]:تفسير ابن عطية 10/399.
[33323]:ما بين القوسين سقط من ب.
[33324]:البحر المحيط 6/420.
[33325]:انظر البحر المحيط 6/420، ما حكاه أبو حيان عن أبي البقاء غير موجود في التبيان.
[33326]:لي: سقط من ب.
[33327]:صدر بيت من بحر الطويل، قاله الفرزدق، وعجزه: كأن أباها نهشل أو مجاشع *** ...
[33328]:أي: أن ما بعد (حتى) في البيت دل على الجملة المحذوفة، وفي الآية دل ما قبل (حتى) على الجملة المحذوفة. البحر المحيط 6/420 – 421.
[33329]:مكان: (قوله): بياض في الأصل.
[33330]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/113، الكشاف 3/55، تفسير ابن عطية 10/400، البيان 2/189، التبيان 2/960، البحر المحيط 6/421.
[33331]:البيت من بحر الطويل، قاله العرجي. والشاهد فيه مخاطبة الواحدة بلفظ جمع المذكر تعظيما. وقد تقدم تخريجه.
[33332]:صدر بيت من بحر الطويل، لم أهتد إلى قائله وعجزه: فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل *** ... وهو في الكشاف 3/55، البحر المحيط 6/421، شرح شواهد الكشاف (99).
[33333]:[الحجر: 6].
[33334]:انظر تفسير ابن عطية 10/400، التبيان 2/960، البحر المحيط 6/421.
[33335]:في ب: في قوله.
[33336]:من قوله تعالى: {وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون} [الأعراف: 4].
[33337]:من قوله تعالى: {وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون} [الأعراف: 4].
[33338]:في الأصل: ارجعون ارجعون.
[33339]:قال أبو البقاء: (والثالث: أنه دل بلفظ الجمع على تكرير القول، فكأنه قال ارجعني ارجعني) التبيان 2/960، وانظر أيضا مشكل إعراب القرآن 2/113 – 114، والبيان 2/188.
[33340]:من قوله تعالى: {ألقيا في جهنم كل كفار عنيد} [ق: 24].
[33341]:في ب: الدلالة. وهو تحريف.
[33342]:صدر من بيت من بحر الطويل، قاله امرؤ القيس وعجزه: بسقط اللوى بين الدخول فحومل. وهو مطلع معلقته، وقد تقدم.
[33343]:ما بين القوسين سقط من ب.
[33344]:تقدم قريبا.
[33345]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 23/120.
[33346]:في ب: سأل.
[33347]:[المنافقون: 10].
[33348]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[33349]:أخرجه الديلمي عن جابر. انظر الدر المنثور 5/15.
[33350]:آخر ما نقله عن الفخر الرازي 23/130.
[33351]:انظر الفخر الرازي 23/120-121.