الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ} (99)

قوله : { حَتَّى إِذَا } : في " حتى " هذه أوجهٌ ، أحدُها : أنها غايةٌ لقولِه : " بما يَصِفون " . والثاني : أنها غايةٌ ل " كاذبون " . وبَيَّنَ هذين الوجهين قولُ الزمخشري : " حتى تتعلق ب " يَصِفون " أي : لا يزالون على سوءِ الذكر إلى هذا الوقت ، والآيةُ فاصلةٌ بينهما على وجهِ الاعتراضِ والتأكيدٍ " . ثم قال : " أو على قولِه " وإنهم لكاذِبون " . قلت : قوله : أو على قولِه كذا " كلام محمولٌ على المعنى إذ التقدير " حتى " مُعَلَّقَةٌ على " يَصِفُون " أو على قوله : " لَكاذِبون " . وفي الجملة فعبارةٌ مُشْكلة .

الثالث : قال ابنُ عطية : " حتى " في هذه المواضع حرفُ ابتداءٍ . ويُحتمل أَنْ تكونَ غايةً مجردةً بتقديرِ كلامٍ محذوفٍ . والأولُ أَبْيَنُ ؛ لأنَّ ما بعدها هو المَعْنِيُّ به المقصودُ ذِكْرُه " . قال الشيخ : " فَتَوَهَّمَ ابنُ عطية أن " حتى " إذا كانت حرفَ ابتداءٍ لا تكونَ غايةً ، وهي وإنْ كانَتْ : حرفَ ابتداءٍ ، فالغايةُ معنًى لا يُفاريقها ، ولم يُبَيِّنْ الكلامَ المحذوفَ المقدَّرَ " . وقال أبو البقاء : " حتى " غايةٌ في معنى العطفِ " . وقال الشيخ : " والذي يَظْهر لي أن قبلها جملةً محذوفةً تكون " حتى " غايةً لها يَدُلُّ عليها ما قبلها . التقديرُ : فلا أكونُ كالكفارِ الذين تَهْمِزُهم الشياطينُ ويَحْضُرونهم ، حتى إذا جاء . ونظيرُ حَذْفِها قولُ الشاعر :

فيا عَجَبا حتى كُلَيْبٌ تَسُبُّني *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أي : يَسُبُّني الناسُ كلُّهم حتى كُلَيْبٌ . إلاَّ أن في البيت دَلَّ ما بعدها عليها بخلافِ الآيةِ الكريمة .

قوله : { رَبِّ ارْجِعُونِ } في قوله " ارْجِعُون " بخطابِ الجمع ثلاثةُ أوجهٍ ، أجودُها : أنه على سبيلِ التعظيمِ كقولِ الشاعر :

فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكمُ *** وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا

وقال آخر :

ألا فارْحَمُوني يا إلَهَ محمدٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قد يُؤْخَذُ من هذا البيتِ ما يَرُدُّ على الشيخ جمال الدين بن مالك حيث قال : " إنه لم يَعْلَمْ أحداً أجاز للداعي يقول : يا رحيمون " . قال : " لئلاَّ يؤْهِمُ خلافَ التوحيِد " . وقد أخْبر تعالى عن نفسه بهذه الصيغةِ وشِبْهِها للتعظيمِ في غيرِ موضعٍ من كتابِه الكريم .

الثاني : أنه نادى ربَّه ، ثم خاطب ملائكةَ ربِّه بقوله : " ارْجِعُون " ويجوز على هذا الوجهِ أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي : يا ملائكةً ربي ، فحذف المضافَ ثم التفت إليه عَوْدِ الضميرِ كقوله : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } ثم قال : { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] التفاتاً ل " أهل " المحذوف .

الثالث : أنَّ ذلك يَدُلُّ على تكريرِ الفعل ، كأنه قال : ارْجِعُون ارْجِعون ارْجِعون . نقله أبو البقاء . وهو يُشْبِهُ ما قالوه في قوله : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ }

[ ق : 24 ] أنه بمعنى : أَلْقِ أَلْقِ ثُنِّي الفعلُ للدلالةِ على ذلك ، وأنشدوا قولَه :

قِفا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومَنْزِلِ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أي : قِفْ قِفْ .