مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَلَّاۤ يَسۡجُدُواْۤ لِلَّهِ ٱلَّذِي يُخۡرِجُ ٱلۡخَبۡءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَيَعۡلَمُ مَا تُخۡفُونَ وَمَا تُعۡلِنُونَ} (25)

قوله تعالى : { ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون } . وفيه مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن في قوله تعالى : { ألا يسجدوا } قراءات أحدها قراءة من قرأ بالتخفيف ( ألا ) للتنبيه ويا حرف النداء ومناداه محذوف ، كما حذفه من قال :

ألا يا اسلمى يا دار مي على البلى *** [ ولا زال منهلا بجرعائك القطر ] .

وثانيها : بالتشديد أراد فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا ، فحذف الجار مع أن ويجوز أن تكون لا مزيدة ، ويكون المعنى فهم لا يهتدون ( إلا ) أن يسجدوا . وثالثها : وهي حرف عبد الله وقراءة الأعمش هلا بقلب الهمزة هاء ، وعن عبد الله هلا تسجدون بمعنى ألا تسجدون على الخطاب . ورابعها : قراءة أبي { ألا يسجدون لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم سركم وما تعلنون } .

المسألة الثانية : قال أهل التحقيق قوله : { ألا يسجدوا } يجب أن يكون بمعنى الأمر لأنه لو كان بمعنى المنع من السجدة لم يكن لوصفه تعالى بما يوجب أن يكون السجود له وهو كونه قادرا على إخراج الخبء عالما بالأسرار معنى .

المسألة الثالثة : الآية دلت على وصف الله تعالى بالقدرة والعلم ، أما القدرة فقوله : { يخرج الخبء في السماوات والأرض } وسمي المخبوء بالمصدر ، وهو يتناول جميع أنواع الأرزاق والأموال وإخراجه من السماء بالغيث ، ومن الأرض بالنبات . وأما العلم فقوله : { ويعلم ما تخفون وما تعلنون } .

واعلم أن المقصود من هذا الكلام الرد على من يعبد الشمس وتحرير الدلالة هكذا : الإله يجب أن يكون قادرا على إخراج الخبء وعالما بالخفيات ، والشمس ليست كذلك فهي لا تكون إلها وإذا لم تكن إلها لم يجز السجود لها ، أما أنه سبحانه وتعالى يجب أن يكون قادرا عالما على الوجه المذكور ، فلما أنه واجب لذاته فلا تختص قادريته وعالميته ببعض المقدورات والمعلومات دون البعض ، وأما أن الشمس ليست كذلك فلأنها جسم متناه ، وكل ما كان متناهيا في الذات كان متناهيا في الصفات ، وإذا كان كذلك فحينئذ لا يعلم كونها قادرة على إخراج الخبء عالمة بالخفيات ، فإذا لم يعلم من حالها ذلك لم يعلم من حالها كونها قادرة على جلب المنافع ودفع المضار ، فرجع حاصل الدلالة إلى ما ذكره إبراهيم عليه السلام في قوله : { لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } وفي قوله : { لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض } وجه آخر وهو أن هذا إشارة إلى ما استدل به إبراهيم عليه السلام في قوله : { ربي الذي يحيي ويميت } وفي قوله : { إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب } وذلك لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يخرج الشمس من المشرق بعد أفولها في المغرب فهذا هو إخراج الخبء في السماوات وهو المراد من قول إبراهيم عليه السلام : { لا أحب الآفلين } ومن قوله : { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب } ومن قوله موسى عليه السلام : { رب المشرق والمغرب } وحاصله يرجع إلى أن أفول الشمس وطلوعها يدلان على كونها تحت تدبير مدبر قاهر فكانت العبادة لقاهرها والمتصرف فيها أولى ، وأما إخراج الخبء من الأرض فهو يتناول إخراج النطفة من الصلب والترائب وتكوين الجنين منه ، فإن قيل إن إبراهيم وموسى عليهما السلام قدما دلالة الأنفس على دلالة الآفاق فإن إبراهيم قال : { ربي الذي يحيي ويميت } ثم قال : { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق } وموسى عليه السلام قال : { ربكم ورب آبائكم الأولين } ثم قال : { رب المشرق والمغرب } فلم كان الأمر ههنا بالعكس فقدم خبء السماوات على خبء الأرض ؟ جوابه : أن إبراهيم وموسى عليهما السلام ناظرا مع من ادعى إلهية البشر ، فلا جرم ابتدأ بإبطال إلهية البشر ثم انتقلا إلى إبطال إلهية السماوات ، وههنا المناظرة مع من ادعى إلهية الشمس لقوله : { وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله } فلا جرم ابتدأ بذكر السماويات ثم بالأرضيات .