مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَن يَضُرُّوكُمۡ إِلَّآ أَذٗىۖ وَإِن يُقَٰتِلُوكُمۡ يُوَلُّوكُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ} (111)

أما قوله تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } فاعلم أنه تعالى لما رغب المؤمنين في التصلب في إيمانهم وترك الالتفات إلى أقوال الكفار وأفعالهم بقوله { كنتم خير أمة } رغبهم فيه من وجه آخر ، وهو أنهم لا قدرة لهم على الإضرار بالمسلمين إلا بالقليل من القول الذي لا عبرة به ، ولو أنهم قاتلوا المسلمين صاروا منهزمين مخذولين ، وإذا كان كذلك لم يجب الالتفات إلى أقوالهم وأفعالهم ، وكل ذلك تقرير لما تقدم من قوله { إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب } [ آل عمران : 100 ] فهذا وجه النظم ، فأما قوله { لن يضروكم إلا أذى } فمعناه : أنه ليس على المسلمين من كفار أهل الكتاب ضرر وإنما منتهى أمرهم أن يؤذوكم باللسان ، إما بالطعن في محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، وإما بإظهار كلمة الكفر ، كقولهم ( عزير ابن الله ، المسيح ابن الله ، الله ثالث ثلاثة ) وإما بتحريف نصوص التوراة والإنجيل ، وإما بإلقاء الشبه في الأسماع ، وإما بتخويف الضعفة من المسلمين ، ومن الناس من قال : إن قوله { إلا أذى } استثناء منقطع وهو بعيد ، لأن كل الوجوه المذكورة يوجب وقوع الغم في قلوب المسلمين والغم ضرر ، فالتقدير لا يضروكم إلا الضرر الذي هو الأذى ، فهو استثناء صحيح ، والمعنى لن يضروكم إلا ضررا يسيرا ، والأذى وقع موقع الضرر ، والأذى مصدر أذيت الشيء أذى .

ثم قال تعالى : { وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون } وهو إخبار بأنهم لو قاتلوا المسلمين لصاروا منهزمين مخذولين { ثم لا ينصرون } أي إنهم بعد صيرورتهم منهزمين لا يحصل لهم شوكة ولا قوة البتة ، ومثله قوله تعالى : { ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون } [ الحشر : 12 ] قوله { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم } [ آل عمران : 12 ] وقوله { نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر } [ القمر : 44 ، 45 ] وكل ذلك وعد بالفتح والنصرة والظفر .

واعلم أن هذه الآية اشتملت على الإخبار عن غيوب كثيرة ، منها أن المؤمنين آمنون من ضررهم ، ومنها أنهم لو قاتلوا المؤمنين لانهزموا ، ومنها أنه لا يحصل لهم قوة وشوكة بعد الانهزام وكل هذه الأخبار وقعت كما أخبر الله عنها ، فإن اليهود لم يقاتلوا إلا انهزموا ، وما أقدموا على محاربة وطلب رياسة إلا خذلوا ، وكل ذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزا وههنا سؤالات :

السؤال الأول : هب أن اليهود كذلك ، لكن النصارى ليسوا كذلك فهذا يقدح في صحة هذه الآيات قلنا : هذه الآيات مخصوصة باليهود ، وأسباب النزول على ذلك فزال هذا الإشكال .

السؤال الثاني : هلا جزم قوله { ثم لا ينصرون } .

قلنا : عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الأخبار ابتداء كأنه قيل أخبركم أنهم لا ينصرون ، والفائدة فيه أنه لو جزم لكان نفي النصر مقيدا بمقاتلتهم كتولية الأدبار ، وحين رفع كان نفي النصر وعدا مطلقا كأنه قال : ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم لا يجدون النصرة بعد ذلك قط بل يبقون في الذلة والمهانة أبدا دائما .

السؤال الثالث : ما الذي عطف عليه قوله { ثم لا ينصرون } ؟ .

الجواب : هو جملة الشرط والجزاء ، كأنه قيل : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون وإنما ذكر لفظ { ثم } لإفادة معنى التراخي في المرتبة ، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار .