مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (114)

الصفة الرابعة : قوله { يؤمنون بالله واليوم الآخر } واعلم أن اليهود كانوا أيضا يقومون في الليالي للتهجد وقراءة التوراة ، فلما مدح المؤمنين بالتهجد وقراءة القرآن أردف ذلك بقوله { يؤمنون بالله واليوم الأخر } وقد بينا أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من المعاصي ، وهؤلاء اليهود ينكرون أنبياء الله ولا يحترزون عن معاصي الله ، فلم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ والمعاد .

واعلم أن كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، وأفضل الأعمال الصلاة وأفضل الأذكار ذكر الله ، وأفضل المعارف معرفة المبدأ ومعرفة المعاد ، فقوله { يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون } إشارة إلى الأعمال الصالحة الصادرة عنهم وقوله { يؤمنون بالله واليوم الآخر } إشارة إلى فضل المعارف الحاصلة في قلوبهم فكان هذا إشارة إلى كمال حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية ، وذلك أكمل أحوال الإنسان ، وهي المرتبة التي يقال لها : إنها آخر درجات الإنسانية وأول درجات الملكية .

الصفة الخامسة : قوله { ويأمرون بالمعروف } .

الصفة السادسة : قوله { وينهون عن المنكر } واعلم أن الغاية القصوى في الكمال أن يكون تاما وفوق التمام فكون الإنسان تاما ليس إلا في كمال قوته العملية والنظرية وقد تقدم ذكره ، وكونه فوق التمام أن يسعى في تكميل الناقصين ، وذلك بطريقين ، إما بإرشادهم إلى ما ينبغي وهو الأمر بالمعروف ، أو بمنعهم عما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : { يأمرون بالمعروف } أي بتوحيد الله وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم { وينهون عن المنكر } أي ينهون عن الشرك بالله ، وعن إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، واعلم أن لفظ المعروف والمنكر مطلق فلم يجز تخصيصه بغير دليل ، فهو يتناول كل معروف وكل منكر .

الصفة السابعة : قوله { ويسارعون في الخيرات } وفيه وجهان أحدهما : أنهم يتبادرون إليها خوف الفوت بالموت ، والآخر : يعملونها غير متثاقلين . فإن قيل : أليس أن العجلة مذمومة قال عليه الصلاة والسلام : « العجلة من الشيطان والتأني من الرحمن » فما الفرق بين السرعة وبين العجلة ؟ قلنا : السرعة مخصوصة بأن يقدم ما ينبغي تقديمه ، والعجلة مخصوصة بأن يقدم ما لا ينبغي تقديمه ، فالمسارعة مخصوصة بفرط الرغبة فيما يتعلق بالدين ، لأن من رغب في الأمر ، آثر الفور على التراخي ، قال تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } [ آل عمران : 133 ] وأيضا العجلة ليست مذمومة على الإطلاق بدليل قوله تعالى : { وعجلت إليك رب لترضى } [ طه : 84 ] .

الصفة الثامنة : قوله { وأولئك من الصالحين } والمعنى وأولئك الموصوفون بما وصفوا به من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله تعالى ورضيهم ، واعلم أن الوصف بذلك غاية المدح ويدل عليه القرآن والمعقول ، أما القرآن ، فهو أن الله تعالى مدح بهذا الوصف أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال : بعد ذكر إسماعيل وإدريس وذي الكفل وغيرهم { وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين } [ الأنبياء : 86 ] وذكر حكاية عن سليمان عليه السلام أنه قال : { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } [ النمل : 19 ] وقال : { فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين } [ التحريم : 4 ] وأما المعقول فهو أن الصلاح ضد الفساد ، وكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد ، سواء كان ذلك في العقائد ، أو في الأعمال ، فإذا كان كل ما حصل من باب ما ينبغي أن يكون ، فقد حصل الصلاح ، فكان الصلاح دالا على أكمل الدرجات .