مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞لَيۡسُواْ سَوَآءٗۗ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ أُمَّةٞ قَآئِمَةٞ يَتۡلُونَ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ وَهُمۡ يَسۡجُدُونَ} (113)

قوله تعالى { ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قآئمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ، وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين } .

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن في قوله { ليسوا سواء } قولين أحدهما : أن قوله { ليسوا سواء } كلام تام ، وقوله { من أهل الكتاب أمة قائمة } كلام مستأنف لبيان قوله { ليسوا سواء } كما وقع قوله { تأمرون بالمعروف } [ آل عمران : 110 ] بيانا لقوله { كنتم خير أمة } [ آل عمران : 110 ] والمعنى أن أهل الكتاب الذين سبق ذكرهم ليسوا سواء ، وهو تقرير لما تقدم من قوله { منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } ، ثم ابتدأ فقال : { من أهل الكتاب أمة قائمة } وعلى هذا القول احتمالان أحدهما : أنه لما قال : { من أهل الكتاب أمة قائمة } كان تمام الكلام أن يقال : ومنهم أمة مذمومة ، إلا أنه أضمر ذكر الأمة المذمومة على مذهب العرب من أن ذكر أحد الضدين يغني عن ذكر الضد الآخر وتحقيقه أن الضدين يعلمان معا ، فذكر أحدهما يستقل بإفادة العلم بهما ، فلا جرم يحسن إهمال الضد الآخر .

قال أبو ذؤيب :

دعاني إليها القلب إني لامرؤ *** مطيع فلا أدري أرشد طلابها

أراد ( أم غي ) فاكتفي بذكر الرشد عن ذكر الغي ، وهذا قول الفراء وابن الأنباري ، وقال الزجاج : لا حاجة إلى إضمار الأمة المذمومة ، لأن ذكر الأمة المذمومة قد جرى فيما قبل هذه الآيات فلا حاجة إلى إضمارها مرة أخرى ، لأنا قد ذكرنا أنه لما كان العلم بالضدين معا كان ذكر أحدهما مغنيا عن ذكر الآخر ، وهذا كما يقال زيد وعبد الله لا يستويان زيد عاقل دين زكي ، فيغني هذا عن أن يقال : وعبد الله ليس كذلك ، فكذا ههنا لما تقدم قوله { ليسوا سواء } أغنى ذلك عن الإضمار .

والقول الثاني : أن قوله { ليسوا سواء } كلام غير تام ولا يجوز الوقف عنده ، بل هو متعلق بما بعده ، والتقدير : ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة وأمة مذمومة ، فأمة رفع بليس وإنما قيل { ليسوا } على مذهب من يقول : أكلوني البراغيث ، وعلى هذا التقدير لا بد من إضمار الأمة المذمومة وهو اختيار أبي عبيدة إلا أن أكثر النحويين أنكروا هذا القول لاتفاق الأكثرين على أن قوله أكلوني البراغيث وأمثالها لغة ركيكة ، والله أعلم .

المسألة الثانية : يقال فلان وفلان سواء ، أي متساويان وقوم سواء ، لأنه مصدر لا يثنى ولا يجمع ومضى الكلام في { سوآء } في أول سورة البقرة .

المسألة الثالثة : في المراد بأهل الكتاب قولان الأول : وعليه الجمهور : أن المراد منه الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام ، روي أنه لما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه قال لهم بعض كبار اليهود : لقد كفرتم وخسرتم ، فأنزل الله تعالى لبيان فضلهم هذه الآية ، وقيل : إنه تعالى لما وصف أهل الكتاب في الآية المتقدمة بالصفات المذمومة ذكر هذه الآية لبيان أن كل أهل الكتاب ليسوا كذلك ، بل فيهم من يكون موصوفا بالصفات الحميدة والخصال المرضية ، قال الثوري : بلغني أنها نزلت في قوم كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء ، وعن عطاء : أنها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثلاثة من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد عليه الصلاة والسلام .

والقول الثاني : أن يكون المراد بأهل الكتاب كل من أوتي الكتاب من أهل الأديان ، وعلى هذا القول يكون المسلمون من جملتهم ، قال تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } [ فاطر : 32 ] ومما يدل على هذا ما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد ، فإذا الناس ينتظرون الصلاة ، فقال : « أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى هذه الساعة غيركم » وقرأ هذه الآية ، قال القفال رحمه الله : ولا يبعد أن يقال : أولئك الحاضرون كانوا نفرا من مؤمني أهل الكتاب ، فقيل ليس يستوي من أهل الكتاب هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فأقاموا صلاة العتمة في الساعة التي ينام فيها غيرهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا ، ولم يبعد أيضا أن يقال : المراد كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فسماهم الله بأهل الكتاب ، كأنه قيل : أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة والمسلمون الذين سماهم الله بأهل الكتاب حالهم وصفتهم هكذا ، يستويان ؟ فيكون الغرض من هذه الآية تقرير فضيلة أهل الإسلام تأكيدا لما تقدم من قوله { كنتم خير أمة } [ آل عمران : 110 ] وهو كقوله { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون } [ السجدة : 18 ]

ثم اعلم أنه تعالى مدح الأمة المذكورة في هذه الآية بصفات ثمانية .

الصفة الأولى : أنها قائمة وفيها أقوال الأول : أنها قائمة في الصلاة يتلون آيات الله آناء الليل فعبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل وهو كقوله { والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما } [ الفرقان : 64 ] وقوله { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل } [ المزمل : 20 ] وقوله { قم الليل } [ المزمل : 2 ] وقوله { وقوموا لله قانتين } [ البقرة : 238 ] والذي يدل على أن المراد من هذا القيام في الصلاة قوله { وهم يسجدون } والظاهر أن السجدة لا تكون إلا في الصلاة .

والقول الثاني : في تفسير كونها قائمة : أنها ثابتة على التمسك بالدين الحق ملازمة له غير مضطربة في التمسك به كقوله { إلا ما دمت عليه قائما } [ آل عمران : 75 ] أي ملازما للاقتضاء ثابتا على المطالبة مستقصيا فيها ، ومنه قوله تعالى : { قائما بالقسط } [ آل عمران : 18 ] .

وأقول : إن هذه الآية دلت على كون المسلم قائما بحق العبودية وقوله { قائما بالقسط } يدل على أن المولى قائم بحق الربوبية في العدل والإحسان فتمت المعاهدة بفضل الله تعالى كما قال : { أوفوا بعهدي أوف بعهدكم } [ البقرة : 40 ] وهذا قول الحسن البصري ، واحتج عليه بما روي أن عمر بن الخطاب قال يا رسول الله : إن أناسا من أهل الكتاب يحدثوننا بما يعجبنا فلو كتبناه ، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال : " أمتهوكون أنتم يا ابن الخطاب كما تهوكت اليهود " ، قال الحسن : متحيرون مترددون " أما والذي نفسي بيده لقد أتيتكم بها بيضاء نقية " وفي رواية أخرى قال عند ذلك : " إنكم لم تكلفوا أن تعملوا بما في التوراة والإنجيل وإنما أمرتم أن تؤمنوا بهما وتفوضوا علمهما إلى الله تعالى ، وكلفتم أن تؤمنوا بما أنزل علي في هذا الوحي غدوة وعشيا والذي نفس محمد بيده لو أدركني إبراهيم وموسى وعيسى لآمنوا بي واتبعوني " فهذا الخبر يدل على أن الثبات على هذا الدين واجب وعدم التعلق بغيره واجب ، فلا جرم مدحهم الله في هذه الآية بذلك فقال : { من أهل الكتاب أمة قائمة } .

القول الثالث : { أمة قائمة } أي مستقيمة عادلة من قولك : أقمت العود فقام بمعنى استقام ، وهذا كالتقرير لقوله { كنتم خير أمة } .

الصفة الثانية : قوله تعالى : { يتلون آيات الله آناء الليل } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : ( يتلون ويؤمنون ) في محل الرفع صفتان لقوله { أمة } أي أمة قائمة تالون مؤمنون .

المسألة الثانية : التلاوة القراءة وأصل الكلمة من الاتباع فكأن التلاوة هي اتباع اللفظ اللفظ .

المسألة الثالثة : آيات الله قد يراد بها آيات القرآن ، وقد يراد بها أصناف مخلوقاته التي هي دالة على ذاته وصفاته والمراد ههنا الأولى .

المسألة الرابعة : { آناء الليل } أصلها في اللغة الأوقات والساعات وواحدها إنا ، مثل : معي وأمعاء وإني مثل نحى وإنحاء ، مكسور الأول ساكن الثاني ، قال القفال رحمه الله ، كأن الثاني مأخوذ منه لأنه انتظار الساعات والأوقات ، وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي أخر المجيء إلى الجمعة " آذيت وآنيت " أي دافعت الأوقات .

الصفة الثالثة : قوله تعالى : { وهم يسجدون } وفيه وجوه الأول : يحتمل أن يكون حالا من التلاوة كأنهم يقرؤون القرآن في السجدة مبالغة في الخضوع والخشوع إلا أن القفال رحمه الله روى في «تفسيره » حديثا : أن ذلك غير جائز ، وهو قوله عليه السلام : " ألا إني نهيت أن أقرأ راكعا أو ساجدا " الثاني : يحتمل أن يكون كلاما مستقلا والمعنى أنهم يقومون تارة يبتغون الفضل والرحمة بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله تعالى وهو كقوله { والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما } [ الفرقان : 64 ] وقوله { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه } [ الزمر : 9 ] قال الحسن : يريح رأسه بقدميه وقدميه برأسه ، وهذا على معنى إرادة الراحة وإزالة التعب وإحداث النشاط الثالث : يحتمل أن يكون المراد بقوله { وهم يسجدون } أنهم يصلون وصفهم بالتهجد بالليل والصلاة تسمى سجودا وسجدة وركوعا وركعة وتسبيحا وتسبيحة ، قال تعالى : { واركعوا مع الراكعين } [ البقرة : 43 ] أي صلوا وقال : { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون } [ الروم : 17 ] والمراد الصلاة الرابع : يحتمل أن يكون المراد بقوله { وهم يسجدون } أي يخضعون ويخشعون لله لأن العرب تسمي الخشوع سجودا كقوله { ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض } [ النحل : 49 ] وكل هذه الوجوه ذكرها القفال رحمه الله .