اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (114)

قوله : { يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } إمَّا استئناف ، وإما أحوال ، وجيء بالجملة الأولى اسميةً ؛ دلالةً على الاستقرار ، وصُدِّرَتْ بضميرٍ ، وثَنَّى عليه جملة فعلية ، ليتكرر الضمير ، فيزداد بتكراره توكيداً .

وجيء بالخبر مضارعاً ؛ دلالةً على تجدُّدِ السجود في كل وقت ، وكذلك جيء بالجُمَل التي بعدها أفعالاً مضارعة .

ويحتمل أن يكون { يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } خبراً ثانياً ، لقوله : " هُمْ " ، ولذلك ترك العاطف ولو ذكره لكان جائزاً .

فصل

اعلم أن اليهود كانوا يقومون في الليل للتهجُّد ، وقراءة التوراة ، فلما مدح المؤمنين بالتهجد وقراءة القرآن أردف ذلك بقوله : { يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ، وقد تقدَّم أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورُسُلِهِ ، والإيمان باليومِ الآخرِ يستلزم الحذرَ من المعاصي ، وهؤلاء اليهود كانوا ينكرون أنبياء الله ، ولا يحترزون عن معاصي الله ، لم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ أو المعاد .

قوله : { وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر } .

قال ابن عباس : يؤمنون بتوحيد الله ، ونبوة صلى الله عليه وسلم ، وينهون عن الكفر .

وقيل : يأمرون بما ينبغي ، وينهون عَمَّا لا ينبغي .

وقوله : { وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } فيه وجهان :

أحدهما : يتبادرون إليها خوف الفَوْتِ بالمَوْتِ .

فإن قيل : أليس أن العجلة مذمومةٌ لقوله صلى الله عليه وسلم : " الْعَجَلَةُ من الشَّيْطَانِ ، والتأنِّي من الرَّحْمَنِ{[5812]} " فما الفرق بين السرعة والعَجَلَة ؟

فالجواب : أن السرعة مخصوصة بأن يقدم ما ينبغي تقديمه ، والعجلة مخصوصة بأن يقدم ما لا ينبغي تقديمه فالمسارعة مخصوصة بفرط الرغبة فيما يتعلق بالدين ، لأن من رغب في الآخرة آثر الفَوْزَ على التراخي ، قال تعالى : { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ آل عمران : 133 ] ، والعجلة - أيضاً - ليست مذمومة على الاطلاق ؛ لقوله تعالى : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } [ طه : 84 ] .

الوجه الثاني : يعملونها غَيْرَ متثاقلين .

قوله : { وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ } أي : الموصوفون بهذه الصفات من جملة الصالحين ، الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم ، وهذا غاية المدح من وجهين :

الأول : أن الله مدح بهذه الصفة أكابر الأنبياء ، فقال - بعد ذكر إسماعيل ، وإدريس ، وذي الكفل وغيرهم : { وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ الصَّالِحِينَ } [ الأنبياء : 86 ] ، وقال : { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } [ التحريم : 4 ] .

الثاني : أن الصلاح ضِدُّ الفساد ، فكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد ، سواء كان ذلك في العقائد ، أو في الأعمال - وإذا كان كذلك كان كل ما ينبغي أن يكون صلاحاً ، فكان الصَّلاحُ دالاًّ على أكمل الدرجات .

قوله : { مِنَ الصَّالِحِينَ } يجوز في " من " أن تكون للتبعيض - وهو الظاهر - .

وجعلها ابن عطية لبيان الجنس ، وفيه نظر ؛ إذْ لم يتقدم مُبْهَمٌ ، فتبينه هذه .


[5812]:أخرجه البيهقي (10/104) وأبو يعلى (7/248) رقم (4256) وأبو بكر بن أبي شيبة في "مسنده" وأحمد بن منيع والحارث كما في "المطالب العالية" (3/35) رقم (2812) عن أنس بن مالك. وذكره الهيثمي "مجمع الزوائد" (8/19) وقال رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح. وله شاهد من حديث سهل بن سعد. أخرجه الترمذي في "البر والصلة" (2013) باب ما جاء في التأني والعجلة بلفظ: العجلة من الشيطان والأناة من الله. وقال: حديث حسن.