فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (114)

{ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة } قال الفراء { أمة } رفع ب { سواء } والتقدير ليس يستوي أمة من أهل الكتاب قائمة . . وأمة كافرة أي لا يستوي أمة من أهل الكتاب شأنها كذا وأمة أخرى شأنها كذا ، والقائمة : المستقيمة العادلة من قولهم : أقمت العود فقام أي استقام وعن ابن مسعود : ليس أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم سواء ، وقال ابن إسحق عن ابن عباس لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن{[1110]} سعية وأسيد بن سعية وأسيد{[1111]} بن عبيد ، ومن أسلم من يهود معهم فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام ورسخوا فيه قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم : ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا شرارنا ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم { ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله } إلى قولهّ{ وأولئك هم الصالحين } وهذا يشهد للمعنى الذي أشير إليه أولا بل يعضده في ختام السورة الكريمة { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا لهم أجرهم عند ربهم . . } {[1112]} .

وعن عطاء أنها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قال القفال رحمه الله : لا يبعد أن يقال أولئك الحاضرون كانوا نفرا من مؤمني أهل الكتاب فقيل ليس يستوي من أهل الكتاب هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم . . . مع أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا ولا يبعد أيضا أن يقال المراد من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فسماهم الله أهل الكتاب كأنه قيل أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة والمسلمون الذين سماهم الله تعالى أهل الكتاب حالهم وصفتهم كذا فكيف يستويان ؟ .

- ثم إنه تعالى مدح الأمة المذكورة بصفات ثمان – أنها { قائمة } قيل : أي في الصلاة وقيل ثابتة على التمسك بدين الحق ملازمة غير مضطربة وقيل أي مستقيمة عادلة . . والصفة الثانية- { يتلون } أي أمة قائمة { يتلون آيات الله آناء الليل } فالتلاوة القراءة وأصل الكلمة الاتباع فكأن التلاوة هي اتباع اللفظ وآيات الله القرآن وقد يراد بها أصناف مخلوقاته الدالة على صانعها وآناء الليل ساعاته واحدها إني . . الصفة الثالثة – { وهم يسجدون } يحتمل أن يكون حالا من يتلون كأنهم يقرءون القرآن في السجدة تخشعا إلا أن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : ألا إني نهيت أن أقرأ راكعا أو ساجدا يأباه . . . وأن يكون المراد وهم يصلون ويتهجدون والصلاة تسمى سجدة وركعة . . وأن يراد وهم يخضعون لله ، كقوله { ولله يسجد من في السماوات والأرض . . }{[1113]} الصفة الرابعة – { يؤمنون بالله واليوم الآخر } فالصفات المتقدمة إشارة إلى كمالهم بحسب القوة النظرية . . والخامسة والسادسة – { ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وهاتان الصفتان إشارة إلى أنهم فوق التمام وذلك لسعيهم في تكميل الناقصين بإرشادهم إلى ما ينبغي وفيه تعريض بالأمة المذمومة أنهم كانوا مداهنين ؛ وعن سفيان الثوري إذا كان الرجل محببا في جيرانه محمودا عند إخوانه فاعلم أنه مداهن ؛ الصفة السابعة – { ويسارعون في الخيرات } أي المذكورات كلها وهي من صفات المدح لأن المسارعة في الخير دليل فرط الرغبة فيه حتى لا يفوت ففي التأخير آفات . وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال ( العجلة من الشيطان ) مخصوص بهذه الآية . . . والأمور متفاوتة : منها ما يحمد فيه التأخير لكونه مما حصل على مهل وتدريج . . ومنها ما يحمد فيه التعجيل . . فتنتهز فيه الفرصة وتغتنم فإن الفرص تمر مر السحاب قال صلى الله عليه وسلم ( اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك ) . الصفة الثامنة – { وأولئك من الصالحين } وذلك أن الأمور بخواتيمها والعاقبة غير معلومة إلا في علم الله تعالى بانخراطهم في سلك الصالحين فذلك المقصود وقصارى المجهود- . {[1114]}


[1110]:رواية ابن جريج: ثعلبة بن سلام أخو عبد الله بن سلام.
[1111]:في رواية ابن جرير وأسيد وأسد ابنا كعب، وزاد: وشعبة ومبشر.
[1112]:من سورة آل عمران من الآية 199.
[1113]:من سورة الرعد من الآية 15.
[1114]:من تفسير غرائب القرآن.