البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (114)

{ يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } تقدم تفسير مثل هذه الجمل .

{ ويسارعون في الخيرات } المسارعةُ في الخير ناشئة عن فرط الرغبة فيه ، لأنّ مَنْ رغب في أمر بادر إليه وإلى القيام به ، وآثر الفور على التراخي .

وجاء في الحديث : « اغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ، وغناك قبل فقرك »

وصفهم تعالى بأنهم إذا دعوا إلى خير من نصر مظلوم ، وإغاثة مكروب ، وعبادة الله ، بادروا إلى فعله .

والظاهر في يؤمنون أن يكون صفة أي تالية مؤمنة .

وجوزوا أنْ تكون الجملة مستأنفة ، أو في موضع الحال من الضمير في يسجدون ، وأن تكون بدلاً من السجود .

قيل : لأن السجود بمعنى الإيمان .

قال الزمخشري : وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين ، ومن الإيمان بالله ، لأن إيمانهم به كلا إيمان ، لإشراكهم به عزيراً وكفرهم ببعض الكتب والرسل دون بعض ، ومن الإيمان باليوم الآخر لأنهم يصفونه بخلاف صفته ، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم كانوا مداهنين ، ومن المسارعة في الخيرات لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها انتهى كلامه .

وهو حسن .

ولمّا ذكر تعالى هذه الأمة وصفها بصفات ست : إحداها : أنها قائمة ، أي مستقيمة على النهج القويم .

ولمّا كانت الاستقامة وصفاً ثابتاً لها لا يتغير جاء باسم الفاعل .

الثانية : الصلاة بالليل المعبر عنها بالتلاوة والسجود ، وهي العبادة التي يظهر بها الخلو لمناجاة الله بالليل .

الثالثة : الإيمان بالله واليوم الآخر ، وهو الحامل على عبادة الله وذكر اليوم الآخر لأنّ فيه ظهور آثار عبادة الله من الجزاء الجزيل .

وتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء ، إذ هم الذين أخبروا بكينونة هذا الجائز في العقل ووقوعه ، فصار الإيمان به واجباً .

الرابعة : الأمر بالمعروف .

الخامسة : النهي عن المنكر ، لما كملوا في أنفسهم سعوا في تكميل غيرهم بهذين الوصفين .

السادسة : المسارعة في الخيرات .

وهي صفة تشمل أفعالهم المختصة بهم ، والأفعال المتعدية منهم إلى غيرهم .

وهذه الصفات الثلاثة ناشئة أيضاً عن الإيمان ، فانظر إلى حسن سياق هذه الصفات حيث توسط الإيمان ، وتقدمت عليه الصفة المختصة بالإنسان في ذاته وهي الصلاة بالليل ، وتأخرت عنه الصفتان المتعدّيتان والصفة المشتركة ، وكلها نتائج عن الإيمان .

{ وأولئك من الصالحين } هذه إشارة إلى من جمع هذه الصفات الست ، أي وأولئك الموصوفون بتلك الأوصاف من الذين صلحت أحوالهم عند الله .

قال الزمخشري : ويجوز أن يريد بالصالحين المسلمين انتهى .

ويشبه قوله قول ابن عباس من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

وفيما قاله الزمخشري بعد بل : الظاهر أنَّ في الوصف بالصلاح زيادة على الوصف بالإسلام ، ولذلك سأل هذه الرتبة بعض الأنبياء فقال تعالى حكاية عن سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم : { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } وقال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام : { ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } وقال تعالى : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلاً جعلنا صالحين } وقال تعالى بعد ذكر إسماعيل : { وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين .

وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين } وقال : { والشهداء والصالحين } ومن للتبعيض .

وقال ابن عطية : ويحسن أن تكون لبيان الجنس انتهى .

ولم يتقدم شيء فيه إبهام فيبين جنسه .

/خ120