قوله تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فأخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم } .
المسألة الأولى : هذه الآية نزلت في غزوة بدر الصغرى ، روى ابن عباس أن أبا سفيان لما عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مكة نادى : يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرى فنقتتل بها إن شئت ، فقال عليه الصلاة والسلام لعمر : قل بيننا وبينك ذلك إن شاء الله تعالى ، فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل بمر الظهران ، وألقى الله تعالى الرعب في قلبه ، فبدا له أن يرجع ، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم نعيم معتمرا ، فقال : يا نعيم إني وعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر ، وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن ، وقد بدا لي أن أرجع ، ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاد بذلك جراءة ، فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل ، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم : ما هذا بالرأي ، أتوكم في دياركم وقتلوا أكثركم فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد ، فوقع هذا الكلام في قلوب قوم منهم ، فلما عرف الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك قال : «والذي نفس محمد بيده لأخرجن إليهم ولو وحدي » ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعه نحو من سبعين رجلا فيهم ابن مسعود ، وذهبوا إلى أن وصلوا إلى بدر الصغرى ، وهي ماء لبني كنانة ، وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام ، ولم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحدا من المشركين ، ووافقوا السوق ، وكانت معهم نفقات وتجارات ، فباعوا واشتروا أدما وزبيبا وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين ، ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق ، وقالوا : إنما خرجتم لتشربوا السويق ، فهذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية .
المسألة الثانية : في محل { الذين } وجوه : أحدها : أنه جر ، صفة للمؤمنين بتقدير : والله لا يضيع أجر المؤمنين الذين قال لهم الناس . الثاني : أنه بدل من قوله : { للذين أحسنوا } الثالث : أنه رفع بالابتداء وخبره { فزادهم إيمانا } .
المسألة الثالثة : المراد بقوله : { الذين } من تقدم ذكرهم ، وهم الذين استجابوا لله والرسول ، وفي المراد بقوله : { قال لهم الناس } وجوه : الأول : أن هذا القائل هو نعيم بن مسعود كما ذكرناه في سبب نزول هذه الآية ، وإنما جاز إطلاق لفظ الناس على الإنسان الواحد ، لأنه إذا قال الواحد قولا وله أتباع يقولون مثل قوله أو يرضون بقوله ، حسن حينئذ إضافة ذلك الفعل إلى الكل ، قال الله تعالى : { وإذ قتلتم نفسا فادرأتم فيها } { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } وهم لم يفعلوا ذلك وإنما فعله أسلافهم ، إلا أنه أضيف إليهم لمتابعتهم لهم على تصويبهم في تلك الأفعال فكذا ههنا يجوز أن يضاف القول إلى الجماعة الراضين بقول ذلك الواحد . الثاني : وهو قول ابن عباس ، ومحمد بن إسحاق : أن ركبا من عبد القيس مروا بأبي سفيان ، فدسهم إلى المسلمين ليجنبوهم وضمن لهم عليه جعلا . الثالث : قال السدي : هم المنافقون ، قالوا للمسلمين حين تجهزوا للمسير إلى بدر لميعاد أبي سفيان : القوم قد أتوكم في دياركم ، فقتلوا الأكثرين منكم ، فإن ذهبتم إليهم لم يبق منكم أحد .
المسألة الرابعة : قوله تعالى : { إن الناس قد جمعوا لكم } المراد بالناس هو أبو سفيان وأصحابه ورؤساء عسكره ، وقوله : { قد جمعوا لكم } أي جمعوا لكم الجموع ، فحذف المفعول لأن العرب تسمي الجيش جمعا ويجمعونه جموعا ، وقوله : { فاخشوهم } أي فكونوا خائفين منهم ، ثم أنه تعالى أخبر أن المسلمين لما سمعوا هذا الكلام لم يلتفتوا إليه ولم يقيموا له وزنا ، فقال تعالى : { فزادهم إيمانا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الضمير في قوله : { فزادهم } إلى ماذا يعود ؟ فيه قولان : الأول : عائد إلى الذين ذكروا هذه التخويفات . والثاني : أنه عائد إلى نفس قولهم ، والتقدير : فزادهم ذلك القول إيمانا ، وإنما حسنت هذه الإضافة لأن هذه الزيادة في الإيمان لما حصلت عند سماع هذا القول حسنت إضافتها إلى هذا القول وإلى هذا القائل ، ونظيره قوله تعالى : { فلم يزدهم دعائي إلا فرارا } وقوله تعالى : { فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا }
المسألة الثانية : المراد بالزيادة في الإيمان أنهم لما سمعوا هذا الكلام المخوف لم يلتفتوا إليه ، بل حدث في قلوبهم عزم متأكد على محاربة الكفار ، وعلى طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمر به وينهي عنه ثقل ذلك أو خف ، لأنه قد كان فيهم من به جراحات عظيمة ، وكانوا محتاجين إلى المداواة ، وحدث في قلوبهم وثوق بأن الله ينصرهم على أعدائهم ويؤيدهم في هذه المحاربة ، فهذا هو المراد من قوله تعالى : { فزادهم إيمانا } .
المسألة الثالثة : الذين يقولون إن الإيمان عبارة لا عن التصديق بل عن الطاعات ، وإنه يقبل الزيادة والنقصان ، احتجوا بهذه الآية ، فإنه تعالى نص على وقوع الزيادة ، والذين لا يقولون بهذا القول قالوا : الزيادة إنما وقعت في مراتب الإيمان وفي شعائره ، فصح القول بوقوع الزيادة في الإيمان مجازا .
المسألة الرابعة : هذه الواقعة تدل دلالة ظاهرة على أن الكل بقضاء الله وقدره ، وذلك لأن المسلمين كانوا قد انهزموا من المشركين يوم أحد ، والعادة جارية بأنه إذا انهزم أحد الخصمين عن الآخر فإنه يحصل في قلب الغالب قوة وشدة استيلاء ، وفي قلب المغلوب انكسار وضعف ، ثم أنه سبحانه قلب القضية ههنا ، فأودع قلوب الغالبين وهم المشركون الخوف والرعب ، وأودع قلوب المغلوبين القوة والحمية والصلابة ، وذلك يدل على أن الدواعي والصوارف من الله تعالى ، وإنها متى حدثت في القلوب وقعت الأفعال على وفقها .
ثم قال تعالى : { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } والمراد أنهم كلما ازدادوا إيمانا في قلوبهم أظهروا ما يطابقه فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل . قال ابن الانباري : { حسبنا الله } أي كافينا الله ، ومثله قول امرئ القيس :
وحسبك من غنى شبع وري *** . . .
أي يكفيك الشبع والري ، وأما ( الوكيل ) ففيه أقوال : أحدها : أنه الكفيل . قال الشاعر :
ذكرت أبا أروى فبت كأنني *** برد الأمور الماضيات وكيل
أراد كأنني برد الأمور كفيل . الثاني : قال الفراء : الوكيل : الكافي ، والذي يدل على صحة هذا القول أن «نعم » سبيلها أن يكون الذي بعدها موافقا للذي قبلها ، تقول : رازقنا الله ونعم الرازق ، وخالقنا الله ونعم الخالق ، وهذا أحسن من قول من يقول : خالقنا الله ونعم الرازق ، فكذا ههنا تقدير الآية : يكفينا الله ونعم الكافي . الثالث : الوكيل ، فعيل بمعنى مفعول ، وهو الموكول إليه ، والكافي والكفيل يجوز أن يسمى وكيلا ، لأن الكافي يكون الأمر موكولا إليه ، وكذا الكفيل يكون الأمر موكولا إليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.