مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخۡزِنَا يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (194)

النوع الرابع : من دعائهم .

قوله تعالى حكاية عنهم : { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد } .

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قوله : { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } فيه حذف المضاف ثم فيه وجوه أحدها : وآتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك . وثانيها : وآتنا ما وعدتنا على تصديق رسلك ، والدليل عليه أن هذه الآية مذكورة عقيب ذكر المنادي للإيمان وهو ، الرسول وعقيب قوله : { آمنا } وهو التصديق .

المسألة الثانية : ههنا سؤال : وهو أن الخلف في وعد الله محال ، فكيف طلبوا بالدعاء ما علموا أنه لا محالة واقع ؟

والجواب عنه من وجوه : الأول : أنه ليس المقصود من الدعاء طلب الفعل ، بل المقصود منه إظهار الخضوع والذلة والعبودية ، وقد أمرنا بالدعاء في أشياء نعلم قطعا أنها توجد لا محالة ، كقوله : { قل رب احكم بالحق } وقوله : { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } .

والوجه الثاني في الجواب : أن وعد الله لا يتناول آحاد الأمة بأعيانهم ، بل إنما يتناولهم بحسب أوصافهم ، فإنه تعالى وعد المتقين بالثواب ، ووعد الفساق بالعقاب ، فقوله : { وآتنا ما وعدتنا } معناه : وفقنا للأعمال التي بها نصير أهلا لوعدك ، واعصمنا من الأعمال التي نصير بها أهلا للعقاب والخزي ، وعلى هذا التقدير يكون المقصود من هذه الآية طلب التوفيق للطاعة والعصمة عن المعصية .

الوجه الثالث : أن الله تعالى وعد المؤمنين بأن ينصرهم في الدنيا ويقهر عدوهم ، فهم طلبوا تعجيل ذلك ، وعلى هذا التقدير يزول الإشكال .

المسألة الثالثة : الآية دلت على أنهم إنما طلبوا منافع الآخرة بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق لأنهم قالوا : ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ، وفي آخر الكلام قالوا : { إنك لا تخلف الميعاد } وهذا يدل على أن المقتضي لحصول منافع الآخرة هو الوعد لا الاستحقاق .

المسألة الرابعة : ههنا سؤال آخر : وهو أنه متى حصل الثواب كان اندفاع العقاب لازما لا محالة ، فقوله : { أتنا ما وعدتنا على رسلك } طلب للثواب ، فبعد طلب الثواب كيف طلب ترك العقاب ؟ وهو قوله : { ولا تخزنا يوم القيامة } بل لو طلب ترك العقاب أولا ثم طلب إيصال الثواب كان الكلام مستقيما .

والجواب من وجهين : الأول : أن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم والسرور فقوله : { أتنا ما وعدتنا على رسلك } المراد منه المنافع ، وقوله : { ولا تخزنا } المراد منه التعظيم ، الثاني : أنا قد بينا أن المقصود من هذه الآية طلب التوفيق على الطاعة والعصمة عن المعصية ، وعلى هذا التقدير يحسن النظم كأنه قيل : وفقنا للطاعات ، وإذا وفقنا لها فاعصمنا عما يبطلها ويزيلها ويوقعنا في الخزي والهلاك ، والحاصل كأنه قيل : وفقنا لطاعتك فإنا لا نقدر على شيء من الطاعات إلا بتوفيقك ، وإذا وفقت لفعلها فوفقنا لاستبقائها فإنا لا نقدر على استبقائها واستدامتها إلا بتوفيقك ، وهو إشارة إلى أن العبد لا يمكنه عمل من الأعمال ، ولا فعل من الأفعال ، ولا لمحة ولا حركة إلا بإعانة الله وتوفيقه .

المسألة الخامسة : قوله : { ولا تخزنا يوم القيامة } شبيه بقوله : { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } فإنه ربما ظن الإنسان أنه على الاعتقاد الحق والعمل الصالح ، ثم إنه يوم القيامة يظهر له أن اعتقاده كان ضلالا وعمله كان ذنبا ، فهناك تحصل الخجالة العظيمة والحسرة الكاملة والأسف الشديد ، ثم قال حكماء الإسلام : وذلك هو العذاب الروحاني .

قالوا : وهذا العذاب أشد من العذاب الجسماني ، ومما يدل على هذا أنه سبحانه حكى عن هؤلاء العباد المؤمنين أنهم طلبوا في هذا الدعاء أشياء فأول مطالبهم الاحتراز عن العذاب الجسماني وهو قوله : { فقنا عذاب النار } وآخرها الاحتراز عن العذاب الروحاني وهو قوله : { ولا تخزنا يوم القيامة } وذلك يدل على أن العذاب الروحاني أشد من العذاب الجسماني .