مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعۡنَا مُنَادِيٗا يُنَادِي لِلۡإِيمَٰنِ أَنۡ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمۡ فَـَٔامَنَّاۚ رَبَّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرۡ عَنَّا سَيِّـَٔاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلۡأَبۡرَارِ} (193)

النوع الثالث : من دعواتهم .

قوله تعالى : { ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيآتنا وتوفنا مع الأبرار } في الآية مسائل :

المسألة الأولى : في المنادي قولان : أحدهما : أنه محمد عليه الصلاة والسلام وهو قول الأكثرين ، والدليل عليه قوله تعالى : { ادع إلى سبيل ربك } { وداعيا إلى الله بإذنه } { أدعو إلى الله } والثاني : أنه هو القرآن ، قالوا إنه تعالى حكى عن مؤمني الإنس ذلك كما حكى عن مؤمني الجن قوله : { إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به } قالوا : والدليل على أن تفسير الآية بهذا الوجه أولى لأنه ليس كل أحد لقي النبي صلى الله عليه وسلم ، أما القرآن فكل أحد سمعه وفهمه ، قالوا : وهذا وان كان مجازا إلا أنه مجاز متعارف ، لأن القرآن لما كان مشتملا على الرشد ، وكان كل من تأمله وصل به إلى الهدى إذا وفقه الله تعالى لذلك ، فصار كأنه يدعو إلى نفسه وينادي بما فيه من أنواع الدلائل ، كما قيل في جهنم : { تدعوا من أدبر وتولى } إذ كان مصيرهم إليها ، والفصحاء والشعراء يصفون الدهر بأنه ينادي ويعظ ، ومرادهم منها دلالة تصاريف الزمان ، قال الشاعر :

يا واضع الميت في قبره *** خاطبك الدهر فلم تسمع

المسألة الثانية : في قوله : { ينادي للإيمان } وجوه : الأول : أن اللام بمعنى «إلى » كقوله : { ثم يعودون لما نهوا عنه } { ثم يعودون لما قالوا } { بأن ربك أوحى لها } { الحمد لله الذي هدانا لهذا } ويقال : دعاه لكذا وإلى كذا ، وندبه له وإليه ، وناداه له وإليه ، وهداه للطريق وإليه ، والسبب في إقامة كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى : أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص حاصلان جميعا . الثاني : قال أبو عبيدة : هذا على التقديم والتأخير ، أي سمعنا مناديا للإيمان ينادي بأن آمنوا ، كما يقال : جاءنا منادي الأمير ينادي بكذا وكذا . والثالث : أن هذه اللام لام الأجل والمعنى : سمعنا مناديا كان نداؤه ليؤمن الناس ، أي كان المنادي ينادي لهذا الغرض ، ألا تراه قال : { أن آمنوا بربكم } أي لتؤمن الناس ، وهو كقوله : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } .

المسألة الثالثة : قوله : { سمعنا مناديا ينادي } نظيره قولك : سمعت رجلا يقول كذا ، وسمعت زيدا يتكلم ، فيوقع الفعل على الرجل ويحذف المسموع ، لأنك وصفته بما يسمع وجعلته حالا عنه فأغناك عن ذكره ، ولأن الوصف أو الحال لم يكن بد منه ، وأنه يقال : سمعت كلام فلان أو قوله .

المسألة الرابعة : ههنا سؤال وهو أن يقال : ما الفائدة في الجمع بين المنادي وينادي ؟

وجوابه : ذكر النداء مطلقا ثم مقيدا بالإيمان تفخيما لشأن المنادي ، لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان ، ونظيره قولك : مررت بهاد يهدي للإسلام ، وذلك لأن المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب ، أو لإطفاء النائرة ، أو لإغاثة المكروب ، أو الكفاية لبعض النوازل ، وكذلك الهادي ، وقد يطلق على من يهدي للطريق ، ويهدي لسداد الرأي ، فإذا قلت ينادي للإيمان ويهدي للإسلام فقد رفعت من شأن المنادي والهادي وفخمته .

المسألة الخامسة : قوله : { أن آمنوا } فيه حذف أو إضمار ، والتقدير : آمنوا أو بأن آمنوا ، ثم حكى الله عنهم أنهم قالوا بعد ذلك : { فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار } وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : أعلم أنهم طلبوا من الله تعالى في هذا الدعاء ثلاثة أشياء : أولها : غفران الذنوب ، وثانيها : تكفير السيئات ، وثالثها : أن تكون وفاتهم مع الأبرار . أما الغفران فهو الستر والتغطية ، والتكفير أيضا هو التغطية ، يقال : رجل مكفر بالسلاح ، أي مغطى به ، والكفر منه أيضا ، وقال لبيد :

في ليلة كفر النجوم ظلامها *** . . .

إذا عرفت هذا : فالمغفرة والتكفير بحسب اللغة معناهما شيء واحد .

أما المفسرون فذكروا فيه وجوها : أحدها : أن المراد بهما شيء واحد وإنما أعيد ذلك للتأكيد لأن الإلحاح في الدعاء والمبالغة فيه مندوب ، وثانيها : المراد بالأول ما تقدم من الذنوب ، وبالثاني المستأنف ، وثالثها : أن يريد بالغفران ما يزول بالتوبة ، وبالكفران ما تكفره الطاعة العظيمة ، ورابعها : أن يكون المراد بالأول ما أتى به الإنسان مع العلم بكونه معصية وذنبا ، وبالثاني : ما أتى به الإنسان مع جهله بكونه معصية وذنبا .

وأما قوله : { وتوفنا مع الأبرار } ففيه بحثان : الأول : أن الأبرار جمع بر أو بار ، كرب وأرباب ، وصاحب وأصحاب ، الثاني : ذكر القفال في تفسير هذه المعية وجهين : الأول : أن وفاتهم معهم هي أن يموتوا على مثل أعمالهم حتى يكونوا في درجاتهم يوم القيامة ، قد يقول الرجل أنا مع الشافعي في هذه المسألة ، ويريد به كونه مساويا له في ذلك الاعتقاد ، والثاني : يقال فلان في العطاء مع أصحاب الألوف ، أي هو مشارك لهم في أنه يعطي ألفا . والثالث : أن يكون المراد منه كونهم في جملة أتباع الأبرار وأشياعهم ، ومنه قوله : { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين } .

المسألة الثانية : احتج أصحابنا على حصول العفو بدون التوبة بهذه الآية أعني قوله تعالى حكاية عنهم : { فاغفر لنا ذنوبنا } والاستدلال به من وجهين : الأول : أنهم طلبوا غفران الذنوب ولم يكن للتوبة فيه ذكر ، فدل على أنهم طلبوا المغفرة مطلقا ، ثم إن الله تعالى أجابهم إليه لأنه قال في آخر الآية : { فاستجاب لهم ربهم } وهذا صريح في أنه تعالى قد يعفو عن الذنب وإن لم توجد التوبة . والثاني : وهو أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما أخبروا عن أنفسهم بأنهم آمنوا ، فعند هذا قالوا : فاغفر لنا ذنوبنا ، والفاء في قوله : { فاغفر } فاء الجزاء وهذا يدل على أن مجرد الإيمان سبب لحسن طلب المغفرة من الله ، ثم إن الله تعالى أجابهم إليه بقوله : { فاستجاب لهم ربهم } فدلت هذه الآية على أن مجرد الإيمان سبب لحصول الغفران ، إما من الابتداء وهو بأن يعفو عنهم ولا يدخلهم النار أو بأن يدخلهم النار ويعذبهم مدة ثم يعفو عنهم ويخرجهم من النار ، فثبت دلالة هذه الآية من هذين الوجهين على حصول العفو .

المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم في حق أصحاب الكبائر مقبولة يوم القيامة ، وذلك لأن هذه الآية دلت على أن هؤلاء المؤمنين طلبوا من الله غفران الذنوب مطلقا من غير أن قيدوا ذلك بالتوبة ، فأجاب الله قولهم وأعطاهم مطلوبهم فإذا قبل شفاعة المؤمنين في العفو عن الذنب ، فلأن يقبل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيه كان أولى .