مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالُواْ طَـٰٓئِرُكُم مَّعَكُمۡ أَئِن ذُكِّرۡتُمۚ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمٞ مُّسۡرِفُونَ} (19)

ثم أجابهم المرسلون بقولهم : { قالوا طائركم معكم } أي شؤمكم معكم وهو الكفر .

ثم قالوا : { أئن ذكرتم } جوابا عن قولهم : { لنرجمنكم } يعني أتفعلون بنا ذلك ، وإن ذكرتم أي بين لكم الأمر بالمعجز والبرهان { بل أنتم قوم مسرفون } حيث تجعلون من يتبرك به كمن يتشاءم به وتقصدون إيلام من يجب في حقه الإكرام أو { مسرفون } حيث تكفرون ، ثم تصرون بعد ظهور الحق بالمعجز والبرهان ، فإن الكافر مسيء فإذا تم عليه الدليل وأوضح له السبيل ويصر يكون مسرفا ، والمسرف هو المجاوز الحد بحيث يبلغ الضد وهم كانوا كذلك في كثير من الأشياء ، أما في التبرك والتشاؤم فقد علم وكذلك في الإيلام والإكرام ، وأما في الكفر فلأن الواجب اتباع الدليل ، فإن لم يوجد به فلا أقل من أن لا يجزم بنقيضه وهم جزموا بالكفر بعد البرهان على الإيمان ، فإن قيل بل للإضرار فما الأمر المضرب عنه ؟ نقول يحتمل أن يقال قوله : { أئن ذكرتم } وارد على تكذيبهم ونسبتهم الرسل إلى الكذب بقولهم : { إن أنتم إلا تكذبون } فكأنهم قالوا : أنحن كاذبون وإن جئنا بالبرهان ، لا بل أنتم قوم مسرفون ويحتمل أن يقال أنحن مشؤومون ، وإن جئنا ببيان صحة ما نحن عليه ، لا بل أنتم قوم مسرفون ويحتمل أن يقال أنحن مستحقون للرجم والإيلام ، وإن بينا صحة ما أتينا به ، لا بل أنتم قوم مسرفون وأما الحكاية فمشهورة ، وهي أن عيسى عليه السلام بعث رجلين إلى أنطاكية فدعيا إلى التوحيد وأظهرا المعجزة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى فحبسهما الملك ، فأرسل بعدهما شمعون فأتى الملك ولم يدع الرسالة ، وقرب نفسه إلى الملك بحسن التدبير ، ثم قال له : إني أسمع أن في الحبس رجلين يدعيان أمرا بديعا ، أفلا يحضران حتى نسمع كلامهما ؟ قال الملك : بلى ، فأحضرا وذكرا مقالتهما الحقة ، فقال لهما شمعون : فهل لكما بينة ؟ قالا : نعم ، فأبرآ الأكمة والأبرص وأحييا الموتى ، فقال شمعون : أيها الملك ، إن شئت أن تغلبهم ، فقال للآلهة التي تعبدونها تفعل شيئا من ذلك ، قال الملك : أنت لا يخفى عليك أنها لا تبصر ولا تسمع ولا تقدر ولا تعلم ، فقال شمعون : فإذن ظهر الحق من جانبهم ، فآمن الملك وقوم وكفر آخرون ، وكانت الغلبة للمكذبين .