مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَسُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيۡءٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (83)

قوله تعالى : { فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون }

لما تقررت الوحدانية والإعادة وأنكروها وقالوا : بأن غير الله آلهة ، قال تعالى وتنزه عن الشريك : { الذي بيده ملكوت كل شيء } وكل شيء ملكه فكيف يكون المملوك للمالك شريكا ، وقالوا : بأن الإعادة لا تكون ، فقال : { وإليه ترجعون } ردا عليهم في الأمرين ، وقد ذكرنا ما يتعلق بالنحو في قوله : سبحان ، أي سبحوا تسبيح الذي أو سبح من في السموات والأرض تسبيح الذي { فسبحان } علم للتسبيح ، والتسبيح هو التنزيه ، والملكوت مبالغة في الملك كالرحموت والرهبوت ، وهو فعلول أو فعلوت فيه كلام ، ومن قال هو فعلول جعلوه ملحقا به .

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس » وقال الغزالي فيه : إن ذلك لأن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر ، والحشر مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه ، فجعله قلب القرآن لذلك ، واستحسنه فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى{[23]} سمعته يترحم عليه بسبب هذا الكلام .

ويمكن أن يقال بأن هذه السورة ليس فيها إلا تقرير الأصول الثلاثة بأقوى البراهين فابتداؤها بيان الرسالة بقوله : { إنك لمن المرسلين } [ يس : 3 ] ودليلها ما قدمه عليها بقوله : { والقرءان الحكيم } [ يس : 2 ] وما أخره عنها بقوله : { لتنذر قوما } [ يس : 6 ] وانتهاؤها بيان الوحدانية والحشر بقوله : { فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء } إشارة إلى التوحيد ، وقوله : { وإليه ترجعون } إشارة إلى الحشر ، وليس في هذه السورة إلا هذه الأصول الثلاثة ودلائله وثوابه ، ومن حصل من القرآن هذا القدر فقد حصل نصيب قلبه وهو التصديق الذي بالجنان . وأما وظيفة اللسان التي هي القول ، فكما في قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا } وفي قوله تعالى : { ومن أحسن قولا } وقوله تعالى : { بالقول الثابت } { وألزمهم كلمة التقوى } { وإليه يصعد الكلم الطيب } إلى غير هذه مما في غير هذه السورة ووظيفة الأركان وهو العمل ، كما في قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } وقوله تعالى : { ولا تقربوا الزنا . . . ولا تقتلوا النفس } وقوله : { واعملوا صالحا } وأيضا مما في غير هذه السورة ، فلما لم يكن فيها إلا أعمال القلب لا غير سماها قلبا ، ولهذا ورد في الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى تلقين يس لمن دنا منه الموت ، وقراءتها عند رأسه ، لأن في ذلك الوقت يكون اللسان ضعيف القوة ، والأعضاء الظاهرة ساقطة البنية ، لكن القلب يكون قد أقبل على الله ورجع عن كل ما سواه ، فيقرأ عند رأسه ما يزاد به قوة قلبه ، ويشتد تصديقه بالأصول الثلاثة وهي شفاء له وأشرار كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلمها إلا الله ورسوله ، وما ذكرناه ظن لانقطع به ، ونرجو الله أن يرحمنا وهو أرحم الراحمين .


[23]:قوله واستحسنه فخر الدين الرازي الخ، يفيد أن المتكلم غير المؤلف فلعل هذا الكلام زيادة علق بها تلميذ المؤلف رحمهما الله