مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلٗا فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَٰكِسُونَ وَرَجُلٗا سَلَمٗا لِّرَجُلٍ هَلۡ يَسۡتَوِيَانِ مَثَلًاۚ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (29)

قوله تعالى : { ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ، إنك ميت وإنهم ميتون ، ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ، فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين }

اعلم أنه تعالى لما بالغ في شرح وعيد الكفار أردفه بذكر مثل ما يدل على فساد مذهبهم وقبح طريقتهم فقال : { ضرب الله مثلا } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : المتشاكسون المختلفون العسرون يقال شكس يشكس شكوسا وشكسا إذا عسر ، وهو رجل شكس ، أي عسر وتشاكس إذا تعاسر ، قال الليث : التشاكس التنازع والاختلاف ، ويقال الليل والنهار متشاكسان ، أي أنهما متضادان إذا جاء أحدهما ذهب الآخر ، وقوله فيه صلة شركاء كما تقول اشتركوا فيه .

المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وأبو عمرو سالما بالألف وكسر اللام يقال سلم فهو سالم والباقون سلما بفتح السين واللام بغير الألف ، ويقال أيضا بفتح السين وكسرها مع سكون العين أما من قرأ سالما فهو اسم الفاعل تقدير مسلم فهو سالم ، وأما سائر القراءات فهي مصادر سلم والمعنى ذا سلامة ، وقوله : { لرجل } أي ذا خلوص له من الشركة من قولهم : سلمت له الضيعة ، وقرئ بالرفع على الابتداء أي وهناك رجل سالم لرجل .

المسألة الثالثة : تقدير الكلام : اضرب لقومك مثلا وقل لهم ما يقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع ، كل واحد منهم يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه في حوائجهم وهو متحير في أمره ، فكلما أرضى أحدهم غضب الباقون ، وإذا احتاج في مهم إليهم فكل واحد منهم يرده إلى الآخر ، فهو يبقى متحيرا لا يعرف أيهم أولى بأن يطلب رضاه ، وأيهم يعينه في حاجاته ، فهو بهذا السبب في عذاب دائم وتعب مقيم ، ورجل آخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص ، وذلك المخدوم يعينه على مهماته ، فأي هذين العبدين أحسن حالا وأحمد شأنا ، والمراد تمثيل حال من يثبت آلهة شتى ، فإن أولئك الآلهة تكون متنازعة متغالبة ، كما قال تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } وقال : { ولعلا بعضهم على بعض } فيبقى ذلك المشرك متحيرا ضالا ، لا يدري أي هؤلاء الآلهة يعبد وعلى ربوبية أيهم يعتمد ، وممن يطلب رزقه ، وممن يلتمس رفقه ، فهمه شفاع ، وقلبه أوزاع . أما من لم يثبت إلا إلها واحدا فهو قائم بما كلفه عارف بما أرضاه وما أسخطه ، فكان حال هذا أقرب إلى الصلاح من حال الأول ، وهذا مثل ضرب في غاية الحسن في تقبيح الشرك وتحسين التوحيد ، فإن قيل : هذا المثال لا ينطبق على عبادة الأصنام لأنها جمادات ، فليس بينها منازعة ولا مشاكسة ، قلنا إن عبدة الأصنام مختلفون منهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الكواكب السبعة ، فهم في الحقيقة إنما يعبدون الكواكب السبعة ، ثم إن القوم يثبتون بين هذه الكواكب منازعة ومشاكسة ، ألا ترى أنهم يقولون زحل هو النحس الأعظم ، والمشتري هو السعد الأعظم ، ومنهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الأرواح الفلكية ، والقائلون بهذا القول زعموا أن كل نوع من أنواع حوادث هذا العالم يتعلق بروح من الأرواح السماوية ، وحينئذ يحصل بين تلك الأرواح منازعة ومشاكسة ، وحينئذ يكون المثل مطابقا ، ومنهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الأشخاص من العلماء والزهاد الذين مضوا ، فهم يعبدون هذه التماثيل لتصير أولئك الأشخاص من العلماء والزهاد شفعاء لهم عند الله ، والقائلون بهذا القول تزعم كل طائفة منهم أن المحق هو ذلك الرجل الذي هو على دينه ، وأن من سواه مبطل ، وعلى هذا التقدير أيضا ينطبق المثال ، فثبت أن هذا المثال مطابق للمقصود .

أما قوله تعالى : { هل يستويان مثلا } فالتقدير هل يستويان صفة ، فقوله : { مثلا } نصب على التمييز ، والمعنى هل تستوي صفتاهما وحالتاهما ، وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس وقرئ مثلين ، ثم قال : { الحمد لله } والمعنى أنه لما بطل القول بإثبات الشركاء والأنداد ، وثبت أنه لا إله إلا هو الواحد الأحد الحق ، ثبت أن الحمد له لا لغيره ، ثم قال بعده : { بل أكثرهم لا يعلمون } أي لا يعلمون أن الحمد له لا لغيره ، وأن المستحق للعبادة هو الله لا غيره ، وقيل المراد أنه لما سبقت هذه الدلائل الظاهرة والبينات الباهرة ، قال : الحمد لله على حصول هذه البيانات وظهور هذه البينات ، وإن كان أكثر الخلق لم يعرفوها ولم يقفوا عليها ،