مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (102)

{ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا }

اعلم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة حال قصر الصلاة بحسب الكمية في العدد ، بين في هذه الآية حالها في الكيفية ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال أبو يوسف والحسن بن زياد : صلاة الخوف كانت خاصة للرسول صلى الله عليه وسلم ولا تجوز لغيره ، وقال المزني : كانت ثابتة ثم نسخت . واحتج أبو يوسف على قوله بوجهين .

الأول : إن قوله تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } ظاهره يقتضي أن إقامة هذه الصلاة مشروطة بكون النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ، لأن كلمة " إذا " تفيد الاشتراط الثاني : أن تغيير هيئة الصلاة أمر على خلاف الدليل ، إلا أنا جوزنا ذلك في حق الرسول صلى الله عليه وسلم لتحصل للناس فضيلة الصلاة خلفه ، وأما في حق غير الرسول عليه الصلاة والسلام فهذا المعنى غير حاصل ، لأن فضيلة الصلاة خلف الثاني كهي خلف الأول ، فلا يحتاج هناك إلى تغيير هيئة الصلاة ، وأما سائر الفقهاء فقالوا : لما ثبت هذا الحكم في حق النبي صلى الله عليه وسلم بحكم هذه الآية وجب أن يثبت في حق غيره لقوله تعالى : { واتبعوه } ألا ترى أن قوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } لم يوجب كون الرسول صلى الله عليه وسلم مخصوصا به دون غيره من الأمة بعده ، وأما التمسك بلفظ " إذا " فالجواب أن مقتضاه هو الثبوت عند الثبوت ، أما العدم عند العدم فغير مسلم ، وأما التمسك بإدراك فضيلة الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم فليس يجوز أن يكون علة لإباحة تغيير الصلاة ، لأنه لا يجوز أن يكون طلب الفضيلة يوجب ترك الفرض ، فاندفع هذا الكلام ، والله أعلم .

المسألة الثانية : شرح صلاة الخوف هو أن الإمام يجعل القوم طائفتين ويصلي بهم ركعة واحدة ، ثم إذا فرغوا من الركعة فكيف يصنعون ؟ فيه أقوال : الأول : أن تلك الطائفة يسلمون من الركعة الواحدة ويذهبون إلى وجه العدو ، وتأتي الطائفة الأخرى ويصلي بهم الإمام ركعة أخرى ويسلم ، وهذا مذهب من يرى أن صلاة الخوف للإمام ركعتان ، وللقوم ركعة ، وهذا مروي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد . الثاني : أن الإمام يصلي بتلك الطائفة ركعتين ويسلم ، ثم تذهب تلك الطائفة إلى وجه العدو ، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي الإمام بهم مرة أخرى ركعتين ، وهذا قول الحسن البصري . الثالث : أن يصلي الإمام مع الطائفة الأولى ركعة تامة ، ثم يبقى الإمام قائما في الركعة الثانية إلى أن تصلي هذه الطائفة ركعة أخرى ، ويتشهدون ويسلمون ويذهبون إلى وجه العدو ، ثم تأتي الطائفة الثانية ويصلون مع الإمام قائما في الركعة الثانية ركعة ، ثم يجلس الإمام في التشهد إلى أن تصلي الطائفة الثانية الركعة الثانية ، ثم يسلم الإمام بهم ، وهذا قول سهل بن أبي حثمة ومذهب الشافعي . الرابع : أن الطائفة الأولى يصلي الإمام بهم ركعة ويعودون إلى وجه العدو ، وتأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم بقية الصلاة وينصرفون إلى وجه العدو ، ثم تعود الطائفة الأولى فيقضون بقية صلاتهم بقراءة وينصرفون إلى وجه العدو ، ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة ، والفرق أن الطائفة الأولى أدركت أول الصلاة ، وهم في حكم من خلف الإمام ، وأما الثانية فلم تدرك أول الصلاة ، والمسبوق فيما يقضي كالمنفرد في صلاته ، وهذا قول عبد الله بن مسعود ، ومذهب أبي حنيفة . واعلم أنه وردت الروايات المختلفة بهذه الصلاة ، فلعله صلى الله عليه وسلم صلى بهم هذه الصلاة في أوقات مختلفة بحسب المصلحة ، وإنما وقع الاختلاف بين الفقهاء في أن الأفضل والأشد موافقة لظاهر الآية أي هذه الأقسام ، أما الواحدي رحمه الله فقال : الآية مخالفة للروايات التي أخذ بها أبو حنيفة ، وبين ذلك من وجهين : الأول : أنه تعالى قال { ولتات طائفة أخرى لم يصلوا } وهذا يدل على أن الطائفة الأولى قد صلت عند إتيان الثانية ، وعند أبي حنيفة ليس الأمر كذلك ؛ لأن الطائفة الثانية عنده تأتي والأولى بعد في الصلاة وما فرغوا منها . الثاني : أن قوله { فليصلوا معك } ظاهره يدل على أن جميع صلاة الطائفة الثانية مع الإمام لأن مطلق قولك : صليت مع الإمام يدل على أنك أدركت جميع الصلاة معه ، وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك ، وأما أصحاب أبي حنيفة فقالوا : الآية مطابقة لقولنا ، لأنه تعالى قال : { فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم } وهذا يدل على أن الطائفة الأولى لم يفرغوا من الصلاة ، ولكنهم يصلون ركعة ثم يكونون من وراء الطائفة الثانية للحراسة ، وأجاب الواحدي عنه فقال : هذا إنما يلزم إذا جعلنا السجود والكون من ورائكم لطائفة واحدة ، وليس الأمر كذلك ، بل هو لطائفتين السجود للأولى ، والكون من ورائكم الذي بمعنى الحراسة للطائفة الثانية والله أعلم .

ولنرجع إلى تفسير الآية فنقول : قوله تعالى : { وإذا كنت فيهم } أي وإذا كنت أيها النبي مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم { فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك } والمعنى فاجعلهم طائفتين ، فلتقم منهم طائفة معك فصل بهم وليأخذوا أسلحتهم ، والضمير إما للمصلين وإما لغيرهم ، فإن كان للمصلين فقالوا : يأخذون من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر ، وذلك لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط وأمنع للعدو من الإقدام عليهم ، وإن كان لغير المصلين فلا كلام فيه . ويحتمل أن يكون ذلك أمرا للفريقين بحمل السلاح لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط .

ثم قال : { فإذا سجدوا فليكونوا }

يعني غير المصلين { من ورائكم } يحرسونكم ، وقد ذكرنا أن أداء الركعة الأولى مع الإمام في صلاة الخوف كهو في صلاة الأمن ، إنما التفاوت يقع في أداء الركعة الثانية فيه ، وقد ذكرنا مذاهب الناس فيها .

ثم قال : { ولتات طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك } وقد بينا أن هذه الآية دالة على صحة قول الشافعي .

ثم قال : { ولياخذوا حذرهم وأسلحتهم } والمعنى أنه تعالى جعل الحذر وهو التحذر والتيقظ آلة يستعملها الغازي ، فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ وجعلا مأخوذين . قال الواحدي رحمه الله : وفيه رخصة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة .

فإن قيل : لم ذكر في الآية الأولى { أسلحتهم } فقط ، وذكر في هذه الآية حذرهم وأسلحتهم .

قلنا : لأن في أول الصلاة قلما يتنبه العدو لكون المسلمين في الصلاة ، بل يظنون كونهم قائمين لأجل المحاربة . أما في الركعة الثانية فقد ظهر للكفار كونهم في الصلاة ، فهاهنا ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم ، فلا جرم خص الله تعالى هذا الموضع بزيادة تحذير فقال : { وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } .

ثم قال تعالى : { ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتهم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } أي بالقتال . عن ابن عباس وجابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه الظهر ، ورأى المشركون ذلك ، فقالوا بعد ذلك : بئسما صنعنا حيث لم نقدم عليهم ، وعزموا على ذلك عند الصلاة الأخرى ، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على أسرارهم بهذه الآية .

ثم قال تعالى : { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم } والمعنى أنه إن تعذر حمل السلاح إما لأنه يصيبه بلل المطر فيسود وتفسد حدته ، أو لأن من الأسلحة ما يكون مبطنا فيثقل على لابسه إذا ابتل بالماء ، أو لأجل أن الرجل كان مريضا فيشق عليه حمل السلاح ، فهاهنا له أن يضع حمل السلاح .

ثم قال : { وخذوا حذركم } والمعنى أنه لما رخص لهم في وضع السلاح حال المطر وحال المرض أمرهم مرة أخرى بالتيقظ والتحفظ والمبالغة في الحذر ، لئلا يجترئ العدو عليهم احتيالا في الميل عليهم واستغناما منهم لوضع المسلمين أسلحتهم ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : أن قوله في أول الآية { وليأخذوا أسلحتهم } أمر ، وظاهر الأمر للوجوب ، فيقتضي أن يكون أخذ السلاح واجبا ثم تأكد هذا بدليل آخر ، وهو أنه قال : { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم } فخص رفع الجناح في وضع السلاح بهاتين الحالتين ، وذلك يوجب أن فيما وراء هاتين الحالتين يكون الإثم والجناح حاصلا بسبب وضع السلاح . ومنهم من قال : إنه سنة مؤكدة ، والأصح ما بيناه ثم الشرط أن لا يحمل سلاحا نجسا إن أمكنه ، ولا يحمل الرمح إلا في طرف الصف ، وبالجملة بحيث لا يتأذى به أحد .

المسألة الثانية : قال أبو علي الجرجاني صاحب النظم : قوله تعالى : { وخذوا حذركم } يدل على أنه كان يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذرا غير غافل عن كيد العدو . والذي نزل به القرآن في هذا الموضع هو وجه الحذر ، لأن العدو يومئذ بذات الرقاع كان مستقبل القبلة ، فالمسلمون كانوا مستدبرين القبلة ، ومتى استقبلوا القبلة صاروا مستدبرين لعدوهم ، فلا جرم أمروا بأن يصيروا طائفتين : طائفة في وجه العدو ، وطائفة مع النبي عليه الصلاة والسلام مستقبل القبلة ، وأما حين كان النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان وببطن نخل فإنه لم يفرق أصحابه طائفتين ، وذلك لأن العدو كان مستدبر القبلة ، والمسلمون كانوا مستقبلين لها ، فكانوا يرون العدو حال كونهم في الصلاة فلم يحتاجوا إلى الاحتراس إلا عند السجود ، فلا جرم لما سجد الصف الأول بقي الصف الثاني يحرسونهم ، فلما فرغوا من السجود وقاموا تأخروا وتقدم الصف الثاني وسجدوا وكان الصف الأول حال قيامهم يحرسون الصف الثاني ، فثبت بما ذكرنا أن قوله تعالى : { خذوا حذركم } يدل على جواز كل هذه الوجوه ؛ والذي يدل على أن المراد من هذه الآية ما ذكرناه أنا لو لم نحملها على هذا الوجه لصار تكرارا محضا من غير فائدة ، ولوقع فعل الرسول بعسفان وببطن نخل على خلاف نص القرآن وإنه غير جائز ، والله أعلم .

المسألة الثالثة : قالت المعتزلة : إن الله تعالى أمر بالحذر ، وذلك يدل على كون العبد قادرا على الفعل وعلى الترك وعلى جميع وجوه الحذر ، وذلك يدل على أن أفعال العباد ليست مخلوقة لله تعالى ، وجوابه ما تقدم من المعارضة بالعلم والداعي ، والله أعلم .

المسألة الرابعة : دلت الآية على وجوب الحذر عن العدو ، فيدل على وجوب الحذر عن جميع المضار المظنونة ، وبهذا الطريق كان الإقدام على العلاج بالدواء والعلاج باليد والاحتراز عن الوباء وعن الجلوس تحت الجدار المائل واجبا والله أعلم .

ثم قال تعالى : { إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا } وفيه سؤال ، أنه كيف طابق الأمر بالحذر قوله { إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا } وجوابه : أنه تعالى لما أمر بالحذر عن العدو أوهم ذلك قوة العدو وشدتهم ، فأزال الله تعالى هذا الوهم بأن أخبر أنه يهينهم ويخذلهم ولا ينصرهم البتة حتى يقوي قلوب المسلمين ويعلموا أن الأمر بالحذر ليس لما لهم من القوة والهيبة ، وإنما هو لأجل أن يحصل الخوف في قلب المؤمنين ، فحينئذ يكونون متضرعين إلى الله تعالى في أن يمدهم بالنصر والتوفيق ، ونظيره قوله تعالى : { إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } .