مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمۡۖ قَالُواْ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوٓاْ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٗ فَتُهَاجِرُواْ فِيهَاۚ فَأُوْلَـٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا} (97)

قوله تعالى { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا }

اعلم أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد أتبعه بعقاب من قعد عنه ورضي بالسكون في دار الكفر ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال الفراء : إن شئت جعلت { توفاهم } ماضيا ولم تضم تاء مع التاء ، مثل قوله : { إن البقر تشابه علينا } وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية إخبارا عن حال أقوام معينين انقرضوا ومضوا ، وإن شئت جعلته مستقبلا ، والتقدير : إن الذين تتوفاهم الملائكة ، وعلى هذا التقدير تكون الآية عامة في حق كل من كان بهذه الصفة .

المسألة الثانية : في هذا التوفي قولان : الأول : وهو قول الجمهور معناه تقبض أرواحهم عند الموت .

فإن قيل : فعلى هذا القول كيف الجمع بينه وبين قوله تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } { الذي خلق الموت والحياة } { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } وبين قوله : { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } .

قلنا : خالق الموت هو الله تعالى ، والرئيس المفوض إليه هذا العمل هو ملك الموت وسائر الملائكة أعوانه .

القول الثاني : { توفاهم الملائكة } يعني يحشرونهم إلى النار ، وهو قول الحسن .

المسألة الثالثة : في خبر { إن } وجوه : الأول : أنه هو قوله : قالوا لهم فيم كنتم ، فحذف " لهم " لدلالة الكلام عليه . الثاني : أن الخبر هو قوله : { فأولئك مأواهم جهنم } فيكون { قالوا لهم } في موضع { ظالمي أنفسهم } ، لأنه نكرة . الثالث : أن الخبر محذوف وهو هلكوا ، ثم فسر الهلاك بقوله : { قالوا فيم كنتم } أما قوله تعالى : { ظالمي أنفسهم } ففيه مسألتان :

المسألة الأولى : قوله { ظالمي أنفسهم } في محل النصب على الحال ، والمعنى تتوفاهم الملائكة في حال ظلمهم أنفسهم ، وهو وإن أضيف إلى المعرفة إلا أنه نكرة في الحقيقة ، لأن المعنى على الانفصال ، كأنه قيل ظالمين أنفسهم ، إلا أنهم حذفوا النون طلبا للخفة ، واسم الفاعل سواء أريد به الحال أو الاستقبال فقد يكون مفصولا في المعنى وإن كان موصولا في اللفظ ، وهو كقوله تعالى : { هذا عارض ممطرنا } { هديا بالغ الكعبة } { ثاني عطفه } فالإضافة في هذه المواضع كلها لفظية لا معنوية .

المسألة الثانية : الظلم قد يراد به الكفر قال تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } وقد يراد به المعصية { فمنهم ظالم لنفسه } وفي المراد بالظلم في هذه قولان : الأول : أن المراد الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك ، ولم يهاجروا إلى دار الإسلام . الثاني : أنها نزلت في قوم من المنافقين كانوا يظهرون الإيمان للمؤمنين خوفا ، فإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا لهم الكفر ولم يهاجروا إلى المدينة ، فبين الله تعالى بهذه الآية أنهم ظالمون لأنفسهم بنفاقهم وكفرهم وتركهم الهجرة .

وأما قوله تعالى : { قالوا فيم كنتم } ففيه وجوه : أحدها : فيم كنتم من أمر دينكم . وثانيها : فيم كنتم ، في حرب محمد أو في حرب أعدائه . وثالثها : لم تركتم الجهاد ولم رضيتم بالسكون في ديار الكفار ؟

ثم قال تعالى : { قالوا كنا مستضعفين في الأرض } جوابا عن قولهم { فيم كنتم } وكان حق الجواب أن يقولوا : كنا في كذا ، أو لم نكن في شيء .

وجوابه : أن معنى { فيم كنتم } التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا ، فقالوا : كنا مستضعفين اعتذارا عما وبخوا به ، واعتلالا بأنهم ما كانوا قادرين على المهاجرة ، ثم إن الملائكة لم يقبلوا منهم هذا العذر بل ردوه عليهم فقالوا : { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم ، فبقيتم بين الكفار لا للعجز عن مفارقتهم ، بل مع القدرة على هذه المفارقة ، فلا جرم ذكر الله تعالى وعيدهم فقال : { فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا } .