مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ} (51)

قوله تعالى : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار * ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب * هدى وذكرى لأولي الألباب * فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار }

اعلم أن في كيفية النظم وجوها ( الأول ) أنه تعالى لما ذكر وقاية الله موسى صلوات الله عليه وذلك المؤمن من مكر فرعون بين في هذه الآية أنه ينصر رسله والذين آمنوا معه ( الثاني ) لما بين من قبل ما يقع بين أهل النار من التخاصم وأنهم عند الفزع إلى خزنة جهنم يقولون { أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات } أتبع ذلك بذكر الرسل وأنه ينصرهم في الدنيا والآخرة ( والثالث ) وهو الأقرب عندي أن الكلام في أول السورة إنما وقع من قوله { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد } وامتد الكلام في الرد على أولئك المجادلين وعلى أن المحقين أبدا كانوا مشغولين بدفع كيد المبطلين ، وكل ذلك إنما ذكره الله تعالى تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتصبيرا له على تحمل أذى قومه .

ولما بلغ الكلام في تقرير المطلوب إلى الغاية القصوى وعد تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن ينصره على أعدائه في الحياة الدنيا وفي الآخرة فقال : { إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا } الآية ، أما في الدنيا فهو المراد بقوله { في الحياة الدنيا } ، وأما في الآخرة فهو المراد بقوله { ويوم يقوم الأشهاد } فحاصل الكلام أنه تعالى وعد بأنه ينصر الأنبياء والرسل ، وينصر الذين ينصرونهم نصرة يظهر أثرها في الدنيا وفي الآخرة .

واعلم أن نصرة الله المحقين تحصل بوجوه : ( أحدها ) النصرة بالحجة ، وقد سمى الله الحجة سلطانا في غير موضع ، وهذه النصرة عامة للمحقين أجمع ، ونعم ما سمى الله هذه النصرة سلطانا لأن السلطنة في الدنيا قد تبطل ، وقد تتبدل بالفقر والذلة والحاجة والفتور ، أما السلطنة الحاصلة بالحجة فإنها تبقى أبد الآباد ويمتنع تطرق الخلل والفتور إليها ( وثانيها ) أنهم منصورون بالمدح والتعظيم ، فإن الظلمة وإن قهروا شخصا من المحقين إلا أنهم لا يقدرون على إسقاط مدحه عن ألسنة الناس ( وثالثها ) أنهم منصورون بسبب أن بواطنهم مملوءة من أنوار الحجة وقوة اليقين ، فإنهم إنما ينظرون إلى الظلمة والجهال كما تنظر ملائكة السموات إلى أخس الأشياء ( ورابعها ) أن المبطلين وإن كان يتفق لهم أن يحصل لهم استيلاء على المحقين ، ففي الغالب أن ذلك لا يدوم بل يكشف للناس أن ذلك كان أمرا وقع على خلاف الواجب ونقيض الحق ( وخامسها ) أن المحق إن اتفق له أن وقع في نوع من أنواع المحذور فذلك يكون سببا لمزيد ثوابه وتعظيم درجاته ( وسادسها ) أن الظلمة والمبطلين كما يموتون تموت آثارهم ولا يبقى لهم في الدنيا أثر ولا خبر . وأما المحقون فإن آثارهم باقية على وجه الدهر والناس بهم يقتدون في أعمال البر والخير ولمحنهم يتركون فهذا كله أنواع نصرة الله للمحقين في الدنيا ( وسابعها ) أنه تعالى قد ينتقم للأنبياء والأولياء بعد موتهم ، كما نصر يحيى بن زكريا فإنه لما قتل به سبعون ألفا ، وأما نصرته تعالى إياهم في الآخرة فذلك بإعلاء درجاتهم في مراتب الثواب وكونهم مصاحبين لأنبياء الله ، كما قال : { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } .

واعلم أن في قوله { إنا لننصر رسلنا } إلى قوله { ويوم يقوم الأشهاد } دقيقة معتبرة وهي أن السلطان العظيم إذا خص بعض خواصه بالإكرام العظيم والتشريف الكامل عند حضور الجمع العظيم من أهل المشرق والمغرب كان ذلك ألذ وأبهج فقوله { إنا لننصر رسلنا - إلى - ويوم يقوم الأشهاد } المقصود من المراد كل من يشهد بأعمال العباد يوم القيامة من ملك ونبي ومؤمن ، أما الملائكة فهم الكرام الكاتبون يشهدون بما شاهدوا ، وأما الأنبياء فقال تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } وقال تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } قال المبرد يجوز أن يكون واحد الأشهاد شاهدا كأطيار وطائر وأصحاب وصاحب ، ويجوز أن يكون واحد الأشهاد شهيدا كأشراف وشريف وأيتام ويتيم .