مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ} (49)

ثم قال تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا يتبع أهواءهم } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : فإن قيل : قوله : { وأن احكم بينهم } معطوف على ماذا ؟

قلنا : على { الكتاب } في قوله { وأنزلنا إليك الكتاب } كأنه قيل : وأنزلنا إليك أن أحكم و{ أن } وصلت بالأمر لأنه فعل كسائر الأفعال ، ويجوز أن يكون معطوفا على قوله { بالحق } أي أنزلناه بالحق وبأن أحكم ، وقوله : { ولا تتبع أهواءهم } قد ذكرنا أن اليهود اجتمعوا وأرادوا إيقاعه في تحريف دينه فعصمه الله تعالى عن ذلك .

المسألة الثانية : قالوا : هذه الآية ناسخة للتخيير في قوله { فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } .

المسألة الثالثة : أعيد ذكر الأمر بالحكم بعد ذكره في الآية الأولى إما للتأكيد ، وإما لأنهما حكمان أمر بهما جميعا ، لأنهم احتكموا إليه في زنا المحصن ، ثم احتكموا في قتيل كان فيهم .

ثم قال تعالى : { واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } .

قال ابن عباس : يريد به يردوك إلى أهوائهم ، فإن كل من صرف من الحق إلى الباطل فقد فتن ، ومنه قوله { وإن كادوا ليفتنونك } والفتنة هاهنا في كلامهم التي تميل عن الحق وتلقى في الباطل وكان صلى الله عليه وسلم يقول : «أعوذ بك من فتنة المحيا » قال هو أن يعدل عن الطريق . قال أهل العلم : هذه الآية تدل على أن الخطأ والنسيان جائزان على الرسول ، لأن الله تعالى قال : { واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } والتعمد في مثل هذا غير جائز على الرسول ، فلم يبق إلا الخطأ والنسيان .

ثم قال تعالى : { فإن تولوا } أي فإن لم يقبلوا حكمك { فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم }

وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : المراد يبتليهم بجزاء بعض ذنوبهم في الدنيا ، وهو أن يسلطك عليهم ، ويعذبهم في الدنيا بالقتل والجلاء ، وإنما خص الله تعالى بعض الذنوب لأن القوم جوزوا في الدنيا ببعض ذنوبهم ، وكان مجازاتهم بالبعض كافيا في إهلاكهم والتدمير عليهم ، والله أعلم .

المسألة الثانية : دلت الآية على أن الكل بإرادة الله تعالى ، لأنه لا يريد أن يصيبهم ببعض ذنوبهم إلا وقد أراد ذنوبهم ، وذلك يدل على أنه تعالى مريد للخير والشر .

ثم قال تعالى : { وإن كثيرا من الناس لفاسقون } لمتمردون في الكفر معتدون فيه ، يعني أن التولي عن حكم الله تعالى من التمرد العظيم والاعتداء في الكفر .