مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞قَالَ قَرِينُهُۥ رَبَّنَا مَآ أَطۡغَيۡتُهُۥ وَلَٰكِن كَانَ فِي ضَلَٰلِۭ بَعِيدٖ} (27)

قوله تعالى : { قال قرينه ربنا ما أطغيته } .

وهو جواب لكلام مقدر ، كأن الكافر حينما يلقى في النار يقول : ربنا أطغاني شيطاني ، فيقول الشيطان : ربنا ما أطغيته ، يدل عليه قوله تعالى بعد هذا { قال لا تختصموا لدي } لأن الاختصام يستدعي كلاما من الجانبين وحينئذ هذا ، كما قال الله تعالى في هذه السورة وفي ص { قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم } وقوله تعالى : { قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده } إلى أن قال : { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال الزمخشري : المراد بالقرين في الآية المتقدمة هو الشيطان لا الملك الذي هو شهيد وقعيد ، واستدل عليه بهذا . وقال غيره ، المراد الملك لا الشيطان ، وهذا يصلح دليلا لمن قال ذلك ، وبيانه هو أنه في الأول لو كان المراد الشيطان ، فيكون قوله { هذا ما لدي عتيد } معناه هذا الشخص عندي عتيد متعد للنار اعتدته بإغوائي ، فإن الزمخشري صرح في تفسير تلك بهذه ، وعلى هذا فيكون قوله { ربنا ما أطغيته } مناقضا لقوله اعتدته وللزمخشري أن يقول الجواب : عنه من وجهين ( أحدهما ) أن يقول إن الشيطان يقول اعتدته بمعنى زينت له الأمر وما ألجأته فيصح القولان من الشيطان ( وثانيهما ) أن تكون الإشارة إلى حالين : ففي الحالة الأولى إنما فعلت به ذلك إظهارا للانتقام من بني آدم ، وتصحيحا لما قال : { فبعزتك لأغوينهم أجمعين } ثم إذا رأى العذاب وأنه معه مشترك وله على الإغواء عذاب ، كما قال تعالى : { فالحق والحق أقول * لأملان جهنم منك وممن تبعك } فيقول { ربنا ما أطغيته } فيرجع عن مقالته عند ظهور العذاب .

المسألة الثانية : قال هاهنا { قال قرينه } من غير واو ، وقال في الآية الأولى { وقال قرينه } بالواو العاطفة ، وذلك لأن في الأول الإشارة وقعت إلى معنيين مجتمعين ، وأن كل نفس في ذلك الوقت تجيء ومعها سائق ، ويقول الشهيد ذلك القول ، وفي الثاني لم يوجد هناك معنيان مجتمعان حتى يذكر بالواو ، والفاء في قوله { فألقياه في العذاب } لا يناسب قوله تعالى : { قال قرينه ربنا ما أطغيته } مناسبة مقتضية للعطف بالواو .

المسألة الثالثة : القائل هاهنا واحد ، وقال { ربنا } ولم يقل رب ، وفي كثير من المواضع مع كون القائل واحدا ، قال رب ، كما في قوله { قال رب أرني أنظر إليك } وقول نوح { رب اغفر لي } وقوله تعالى : { قال رب السجن أحب إلى } وقوله { قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة } إلى غير ذلك ، وقوله تعالى : { قال رب أنظرني إلى يوم يبعثون } نقول في جميع تلك المواضع القائل طالب ، ولا يحسن أن يقول الطالب : يا رب عمرني واخصصني وأعطني كذا ، وإنما يقول : أعطنا لأن كونه ربا لا يناسب تخصيص الطالب ، وأما هذا الموضع فموضع الهيبة والعظمة وعرض الحال دون الطلب فقال : { ربنا ما أطغيته } .

وقوله تعالى : { ولكن كان في ضلال بعيد } .

يعني أن ذلك لم يكن بإطغائه ، وإنما كان ضالا متغلغلا في الضلال فطغى ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : ما الوجه في اتصاف الضلال بالبعيد ؟ نقول الضال يكون أكثر ضلالا عن الطريق ، فإذا تمادى في الضلال وبقي فيه مدة يبعد عن المقصد كثيرا ، وإذا علم الضلال قصر في الطريق من قريب فلا يبعد عن المقصد كثيرا ، فقوله { ضلال بعيد } وصف المصدر بما يوصف به الفاعل ، كما يقال كلام صادق وعيشة راضية أي ضلال ذو بعد ، والضلال إذا بعد مداه وامتد الضال فيه يصير بينا ويظهر الضلال ، لأن من حاد عن الطريق وأبعد عنه تتغير عليه السمات والجهات ولا يرى عين المقصد ويتبين له أنه ضل عن الطريق ، وربما يقع في أودية ومفاوز ويظهر له أمارات الضلال بخلاف من حاد قليلا ، فالضلال وصفه الله تعالى بالوصفين في كثير من المواضع فقال تارة في ضلال مبين وأخرى قال : { في ضلال بعيد } .

المسألة الثانية : قوله تعالى : { ولكن كان في ضلال بعيد } إشارة إلى قوله { إلا عبادك منهم المخلصين } وقوله تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } أي لم يكونوا من العباد ، فجعلهم أهل العناد ، ولو كان لهم في سبيلك قدم صدق لما كان لي عليهم من يد ، والله أعلم .

المسألة الثالثة : كيف قال ما أطغيته مع أنه قال : { لأغوينهم أجمعين } ؟ قلنا الجواب عنه من ثلاثة أوجه ( وجهان ) قد تقدما في الاعتذار عما قاله الزمخشري ( والثالث ) هو أن يكون المراد من قوله { لأغوينهم } أي لأديمنهم على الغواية كما أن الضال إذا قال له شخص أنت على الجادة ، فلا تتركها ، يقال إنه يضله كذلك هاهنا ، وقوله { ما أطغيته } أي ما كان ابتداء الإطغاء مني .