مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (199)

قوله تعالى : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين }

اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الله هو الذي يتولاه ، وأن الأصنام وعابديها لا يقدرون على الإيذاء والإضرار ، بين في هذه الآية ما هو المنهج القويم والصراط المستقيم في معاملة الناس فقال : { خذ العفو وأمر بالعرف } قال أهل اللغة : العفو الفضل وما أتي من غير كلفة .

إذا عرفت هذا فنقول : الحقوق التي تستوفى من الناس وتؤخذ منهم ، إما أن يجوز إدخال المساهلة والمسامحة فيها ، وإما أن لا يجوز .

أما القسم الأول : فهو المراد بقوله : { خذ العفو } ويدخل فيه ترك التشدد في كل ما يتعلق بالحقوق المالية ، ويدخل فيه أيضا التخلق مع الناس بالخلق الطيب ، وترك الغلظة والفظاظة كما قال تعالى : { ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } ومن هذا الباب أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بالرفق واللطف ، كما قال تعالى : { وجادلهم بالتي هي أحسن } .

وأما القسم الثاني : وهو الذي لا يجوز دخول المساهلة والمسامحة فيه ، فالحكم فيه أن يأمر بالمعروف ، والعرف ، والعارفة ، والمعروف هو كل أمر عرف أنه لا بد من الإتيان به ، وأن وجوده خير من عدمه ، وذلك لأن في هذا القسم لو اقتصر على الأخذ بالعفو ولم يأمر بالعرف ولم يكشف عن حقيقة الحال ، لكان ذلك سعيا في تغيير الدين وإبطال الحق وأنه لا يجوز ، ثم إنه إذا أمر بالعرف ورغب فيه ونهى عن المنكر ونفر عنه ، فربما أقدم بعض الجاهلين على السفاهة والإيذاء فلهذا السبب قال تعالى في آخر الآية : { وأعرض عن الجاهلين } وقال في آية أخرى : { وإذا مروا باللغو مروا كراما } وقال : { والذين هم عن اللغو معرضون } وقال في صفة أهل الجنة : { لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما } وإذا أحاط عقلك بهذا التقسيم ، علمت أن هذه الآية مشتملة على مكارم الأخلاق فيما يتعلق بمعاملة الإنسان مع الغير . قال عكرمة : لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام : «يا جبريل ما هذا ؟ قال يا محمد إن ربك يقول هو أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك » قال أهل العلم : تفسير جبريل مطابق للفظ الآية لأنك لو وصلت من قطعك ، فقد عفوت عنه ، وإذا آتيت من حرمك فقد آتيت بالمعروف ، وإذا عفوت عمن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهلين ، وقال جعفر الصادق رضي الله عنه : وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية ، وللمفسرين في تفسير هذه الآية طريق آخر فقالوا : { خذ العفو وأمر بالعرف } أي ما عفا لك من أموالهم ، أي ما أتوك به عفوا فخذه ، ولا تسأل عما وراء ذلك . قالوا : كان هذا قبل فريضة الصدقة فلما نزلت آية وجوب الزكاة صارت هذه الآية منسوخة إلا قوله : { وأمر بالعرف } أي بإظهار الدين الحق ، وتقرير دلائله { وأعرض عن الجاهلين } أي المشركين قالوا : وهذا منسوخ بآية السيف فعلى هذه الطريقة جميع الآية منسوخة إلا قوله : { وأمر بالعرف } .

واعلم أن تخصيص قوله : { خذ العفو } بما ذكره تقييد للمطلق من غير دليل ، وأيضا فهذا الكلام إذا حملناه على أداء الزكاة لم يكن إيجاب الزكاة بالمقادير المخصوصة منافيا لذلك ، لأن آخذ الزكاة مأمور بأن لا يأخذ كرائم أموال الناس ولا يشدد الأمر على المزكي فلم يكن إيجاب الزكاة سببا لصيرورة هذه الآية منسوخة .

وأما قوله : { وأعرض عن الجاهلين } فالمقصود منه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يصبر على سوء أخلاقهم ، وأن لا يقابل أقوالهم الركيكة ولا أفعالهم الخسيسة بأمثالها ، وليس فيه دلالة على امتناعه من القتال ، لأنه لا يمتنع أن يؤمر عليه السلام بالإعراض عن الجاهلين مع الأمر بقتال المشركين فإنه ليس من المتناقض أن يقال الشارع لا يقابل سفاهتهم بمثلها ؟ ولكن قاتلهم وإذا كان الجمع بين الأمرين ممكنا فحينئذ لا حاجة إلى التزام النسخ ، إلا أن الظاهرية من المفسرين مشغوفون بتكثير الناسخ والمنسوخ من غير ضرورة ولا حاجة .