اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَلَمۡ نَجۡعَلِ ٱلۡأَرۡضَ كِفَاتًا} (25)

قوله تعالى : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً } هذا هو النوع الرَّابع من تخويف الكُفَّار ؛ لأنه - تعالى - ذكرهم في الآية المتقدمة بالنعم التي في الأنفس لأنها كالأصل للنعم التي في الآفاق ، ثم قال في آخرها : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ؛ لأن النعم كلها كانت أكثر كانت الخيانة أقبح وكان استحقاق الذم أشد ، وذكر في هذه الآية النعم التي في الأنفس ، لأنها كالأصل للنعم التي في الآفاق ، قالوا : فإنه لولا الحياة والسمع والبصر والأعضاء السليمة لما كان الانتفاع بشي من المخلوقات ممكناً - والله أعلم - ، وإنما قدم الأرض لأنها أقرب الأشياء إلينا من الأمور الخارجة .

والكِفَات : اسم للوعاء الذي يكفت فيه أي يجمع . قاله أبو عبيدٍ ، يقال : كفته يكفته أي جمعه وضمه .

وفي الحديث : «أكْفِتُوا صبيانكُم »{[59039]} ، قال الصمصامة بن الطرمَّاح : [ الوافر ]

5058- وأنْتَ غَداً اليَوْمَ فَوْقَ الأرْضِ حَيًّا *** وأنْتَ غَداً تَضُمَّكَ فِي كِفاتِ{[59040]}

وقيل : الكِفَات : اسم لما يكفت ك «الضِّمام والجماع » ، يقال : هذا الباب جماع الأبواب ، والمعنى : نجعل الأرض ضامَّة تضم الأحياء على ظهرها ، والأموات في بطنها ، والكفت : الضم والجمع ؛ وأنشد سيبويه : [ الوافر ]

5059- كِرَامٌ حِينَ تَنْكفِتُ الأفَاعِي*** إلَى أحْجارِهنَّ مِنَ الصَّقيعِ{[59041]}

وروي عن ربيعة في النباش ، قال : تقطع يده ، فقيل له : لم قلتَ ذلك ؟ فقال : إن الله - تعالى - يقول : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً أَحْيَآءً وَأَمْواتاً } فالأرض حِرز ، وكانوا يسمون بقيع الغرقد كفتة ، لأنه مقبرة تضم الموتى ، فالأرض تضم الأحياء إلى منازلهم ، والأموات في قبورهم ، وأيضاً استقرار النَّاس على وجه الأرض ، ثم اضطجاعهم عليها ، انضمام منهم إليها .

وقال الأخفش وأبو عبيدة ومجاهد في أحد قوليه : الأحياء والأموات ترجع إلى الأرض ، والأرض منقسمة إلى حيٍّ وهو الذي ينبت ، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت .

وفي انتصاب : «كَفَاتاً ، أحياء وأمواتاً » وجهان :

أحدهما : أنه مفعول ثانٍ ل «نجعل » ؛ لأنها للتصيير .

والثاني : أنه منصوب على الحال من «الأرض » ، والمفعول الثاني : «أحياءً وأمواتاً » بمعنى : ألم نصيِّرها أحياء بالنبات ، وأمواتاً بغير نبات ، أي : بعضها كذا ، وبعضها كذا .

وقيل : «كِفَاتاً » جمع كافت ك «صيام ، وقيام » جمع «صائم ، وقائم » .

وقيل : بل هو مصدر كالكتاب والحساب .

وقال الخليل : التكفيت : تقليب الشَّيء ظهراً لبطن وبطناً لظهر ، ويقال : انكفت القوم إلى منازلهم ، أي : انقلبوا ، فمعنى الكفات : أنهم يتصرفون على ظهرها ، وينقلبون إليها فيدفنون فيها .


[59039]:أخرجه أبو داود (3733) وأحمد (3/388).
[59040]:ينظر اللسان (كفت)، والقرطبي 19/15، والدر المصون 6/456.
[59041]:نسب البيت إلى خالد بن أبي فهر، ينظر الكتاب 3/577، وشرح أبيات سيبويه 2/316، والمقتضب 2/197، والقرطبي 19/105.