مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّكُمۡ فُرۡقَانٗا وَيُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ} (29)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم }

واعلم أنه تعالى لما حذر عن الفتنة بالأموال والأولاد ، رغب في التقوى التي توجب ترك الميل والهوى في محبة الأموال والأولاد . وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : لقائل أن يقول : إدخال الشرط في الحكم إنما يحسن في حق من كان جاهلا بعواقب الأمور ، وذلك لا يليق بالله تعالى .

والجواب : أن قولنا إن كان كذا كان كذا ، لا يفيد إلا كون الشرط مستلزما للجزاء ، فأما أن وقوع الشرط مشكوك فيه أو معلوم فذلك غير مستفاد من هذا اللفظ ، سلمنا أنه يفيد هذا الشك إلا أنه تعالى يعامل العباد في الجزاء معاملة الشاك ، وعليه يخرج قوله تعالى : { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } .

المسألة الثانية : هذه القضية الشرطية شرطها شيء واحد وهو تقوى الله تعالى ، وذلك يتناول اتقاء الله في جميع الكبائر . وإنما خصصنا هذا بالكبائر لأنه تعالى ذكر في الجزاء تكفير السيئات ، والجزاء يجب أن يكون مغايرا للشرط ، فحملنا التقوى على تقوى الكبائر وحملنا السيئات على الصغائر ليظهر الفرق بين الشرط والجزاء ، وأما الجزاء المرتب على هذا الشرط فأمور ثلاثة : الأول : قوله : { يجعل لكم فرقانا } والمعنى أنه تعالى يفرق بينكم وبين الكفار . ولما كان اللفظ مطلقا وجب حمله على جميع الفروق الحاصلة بين المؤمنين وبين الكفار فنقول : هذا الفرقان إما أن يعتبر في أحوال الدنيا أو في أحوال الآخرة . أما في أحوال الدنيا فإما أن يعتبر في أحوال القلوب وهي الأحوال الباطنة أو في الأحوال الظاهرة ، أما في أحوال القلوب فأمور : أحدها : أنه تعالى يخص المؤمنين بالهداية والمعرفة . وثانيها : أنه يخص قلوبهم وصدورهم بالانشراح كما قال : { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } وثالثها : أنه يزيل الغل والحقد والحسد عن قلوبهم ويزيل المكر والخداع عن صدورهم ، مع أن المنافق والكافر يكون قلبه مملوءا من هذه الأحوال الخسيسة والأخلاق الذميمة ، والسبب في حصول هذه الأمور أن القلب إذا صار مشرقا بطاعة الله تعالى زالت عنه كل هذه الظلمات لأن معرفة الله نور ، وهذه الأخلاق ظلمات ، وإذا ظهر النور فلا بد من زوال الظلمة . وأما في الأحوال الظاهرة ، فإن الله تعالى يخص المسلمين بالعلو والفتح والنصر والظفر ، كما قال : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } وكما قال : { ليظهره على الدين كله } وأمر الفاسق والكافر بالعكس من ذلك . وأما في أحوال الآخرة ، فالثواب والمنافع الدائمة والتعظيم من الله والملائكة وكل هذه الأحوال داخلة في الفرقان .

والنوع الثاني : من الأجزية المرتبة على التقوى قوله : { ويكفر عنكم سيئاتكم } فنقول : إن حملنا قوله : { إن تتقوا الله } على الاتقاء من الكفر ، كان المراد بقوله : { ويكفر عنكم سيئاتكم } جميع السيئات التي وجدت قبل الكفر ، وإن حملناه على الاتقاء عن الكبائر ، كان المراد من هذا تكفير الصغائر .

والنوع الثالث : قوله : { ويغفر لكم } واعلم أن المراد من تكفير السيئات سترها في الدنيا ومن المغفرة إزالتها في القيامة لئلا يلزم التكرار . ثم قال : { والله ذو الفضل العظيم } ومن كان كذلك فإنه إذا وعد بشيء وفى به ، وإنما قلنا : إن أفضال الله أعظم من أفضال غيره لوجوه : الأول : أن كل ما سوى الحق سبحانه فإنه لا يتفضل ولا يحسن إلا إذا حصلت في قلبه داعية الإفضال والإحسان ، وتلك الداعية حادثة فلا تحصل إلا بتخليق الله تعالى ، وعند هذا ينكشف أن المتفضل ليس إلا الله الذي خلق تلك الداعية الموجبة لذلك الفعل . الثاني : أن كل من تفضل يستفيد به نوعا من أنواع الكمال إما عوضا من المال أو عوضا من المدح والثناء ، وإما عوضا من نوع آخر وهو دفع الألم الحاصل في القلب بسبب الرقة الجنسية والله تعالى يعطي ويتفضل ولا يطلب به شيئا من الأعواض لأنه كامل لذاته ، وما كان حاصلا للشيء لذاته امتنع أن يستفيده من غيره . الثالث : أن كل من تفضل على الغير فإن المتفضل عليه يصير ممنونا عليه من ذلك المتفضل ، وذلك منفر ، أما الحق سبحانه وتعالى فهو الموجد لذات كل أحد بجميع صفاته ، فلا يحصل الاستنكاف من قبول إحسانه . الرابع : أن كل من تفضل على غيره فإنه لا ينتفع المتفضل عليه بذلك التفضل إلا إذا حصلت له عين باصرة وأذن سامعة ومعدة هاضمة . حتى ينتفع بذلك الإحسان ، وعند هذا ينكشف أن المتفضل هو الله في الحقيقة فثبت بهذه البراهين صحة قوله : { والله ذو الفضل العظيم } .