مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (30)

قوله تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين }

اعلم أنه تعالى لما ذكر المؤمنين نعمه عليهم بقوله : { واذكروا إذ أنتم قليل } فكذلك ذكر رسوله نعمه عليه وهو دفع كيد المشركين ومكر الماكرين عنه ، وهذه السورة مدنية . قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من المفسرين : إن مشركي قريش تآمروا في دار الندوة ودخل عليهم إبليس في صورة شيخ ، وذكر أنه من أهل نجد . فقال بعضهم : قيدوه نتربص به ريب المنون ، فقال إبليس : لا مصلحة فيه ، لأنه يغضب له قومه فتسفك له الدماء . وقال بعضهم أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه لكم ، فقال إبليس : لا مصلحة فيه لأنه يجمع طائفة على نفسه ويقاتلكم بهم . وقال أبو جهل : الرأي أن نجمع من كل قبيلة رجلا فيضربوه بأسيافهم ضربة واحدة فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على محاربة قريش كلها ، فيرضون بأخذ الدية ، فقال إبليس : هذا هو الرأي الصواب ، فأوحى الله تعالى إلى نبيه بذلك وأذن له في الخروج إلى المدينة وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن الله له في الهجرة ، وأمر عليا أن يبيت في مضجعه ، وقال له : تسج ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه وباتوا مترصدين ، فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه فأبصروا عليا فبهتوا وخيب الله سعيهم . وقوله : { ليثبتوك } قال ابن عباس : ليوثقوك ويشدوك وكل من شد فقد أثبت ، لأنه لا يقدر على الحركة ولهذا يقال لمن اشتدت به علة أو جراحه تمنعه من الحركة . فقد أثبت فلان فهو مثبت ، وقيل ليسجنوك ، وقيل ليحبسوك ، وقيل ليثبتوك في بيت فحذف المحل لوضوح معناه ، وقرأ بعضهم { ليثبتوك } بالتشديد وقرأ النخعى { ليثبتوك } من البيات وقوله : { أو يقتلوك } وهو الذي حكيناه عن أبي جهل لعنه الله { أو يخرجوك } أي من مكة ، ولما ذكر تعالى هذه الأقسام الثلاثة قال : { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } وقد ذكرنا في سورة آل عمران في تفسير قوله : { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } تفسير المكر في حق الله تعالى ، والحاصل أنهم احتالوا على إبطال أمر محمد والله تعالى نصره وقواه ، فضاع فعلهم وظهر صنع الله تعالى . قال القاضي : القصة التي ذكرها ابن عباس موافقة للقرآن إلا ما فيها من حديث إبليس ، فإنه زعم أنه كانت صورته موافقة لصورة الإنس وذلك باطل ، لأن ذلك التصوير إما أن يكون من فعل الله أو من فعل إبليس ، والأول باطل لأنه لا يجوز من الله تعالى أن يفعل ذلك ليفتن الكفار في المكر ، والثاني أيضا باطل ، لأنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يقدر إبليس على تغيير صورة نفسه .

واعلم أن هذا النزاع عجيب ، فإنه لما لم يبعد من الله تعالى أن يقدر إبليس على أنواع الوساوس فكيف يبعد منه أن يقدره على تغيير صورة نفسه ؟

فإن قيل : كيف قال : { والله خير الماكرين } ولا خير في مكرهم .

قلنا : فيه وجوه : أحدها : أن يكون المراد أقوى الماكرين فوضع { خير } موضع أقوى وأشد ، لينبه بذلك على أن كل مكر فهو يبطل في مقابلة فعل الله تعالى . وثانيها : أن يكون المراد خير الماكرين لو قدر في مكرهم ما يكون خيرا وحسنا . وثالثها : أن يكون المراد من قوله : { خير الماكرين } ليس هو التفضيل ، بل المراد أنه في نفسه خير كما يقال : الثريد خير من الله تعالى .