مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ وَٱصۡبِرُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (46)

ثم قال تعالى مؤكدا لذلك : { وأطيعوا الله ورسوله } في سائر ما يأمر به ، لأن الجهاد لا ينفع إلا مع التمسك بسائر الطاعات .

ثم قال : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : بين تعالى أن النزاع يوجب أمرين : أحدهما : أنه يوجب حصول الفشل والضعف . والثاني : قوله : { وتذهب ريحكم } وفيه قولان : الأول : المراد بالريح الدولة ، شبهت الدولة وقت نفاذها وتمشية أمرها بالريح وهبوبها . يقال : هبت رياح فلان ، إذا دانت له الدولة ونفد أمره . الثاني : أنه لم يكن قط نصر إلا بريح يبعثها الله ، وفي الحديث «نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور » والقول الأول أقوى ، لأنه تعالى جعل تنازعهم مؤثرا في ذهاب الريح ، ومعلوم أن اختلافهم لا يؤثر في هبوب الصبا . قال مجاهد : { وتذهب ريحكم } أي نصرتكم ، وذهبت ريح أصحاب محمد حين تنازعوا يوم أحد .

المسألة الثانية : احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا : القول بالقياس يفضي إلى المنازعة ، والمنازعة محرمة ، فهذه الآية توجب أن يكون العمل بالقياس حراما ، بيان الملازمة المشاهدة ، فإنا نرى أن الدنيا صارت مملوءة من الاختلافات بسبب القياسات ، وبيان أن المنازعة محرمة . قوله : { ولا تنازعوا } وأيضا القائلون بأن النص لا يجوز تخصيصه بالقياس تمسكوا بهذه الآية . وقالوا : قوله تعالى : { وأطيعوا الله ورسوله } صريح في وجوب طاعة الله ورسوله في كل ما نص عليه ، ثم أتبعه بأن قال : { ولا تنازعوا فتفشلوا } ومعلوم أن من تمسك بالقياس المخصص بالنص فقد ترك طاعة الله وطاعة رسوله . وتمسك بالقياس الذي يوجب التنازع والفشل ، وكل ذلك حرام ، ومثبتو القياس أجابوا عن الأول ، بأنه ليس كل قياس يوجب المنازعة .

ثم قال تعالى : { واصبروا إن الله مع الصابرين } والمقصود أن كمال أمر الجهاد مبني على الصبر ، فأمرهم بالصبر . كما قال في آية أخرى : { اصبروا وصابروا ورابطوا } وبين أنه تعالى مع الصابرين ، ولا شبهة أن المراد بهذه المعية النصرة والمعونة .