اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ وَٱصۡبِرُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (46)

{ وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } فيما يأمر به ؛ لأن الجهاد لا ينفع إلاَّ مع التَّمسُّك بسائر الطاعات ، " ولاَ تَنَازعُوا " لا تختلفوا ، فإنَّ النزاعَ يوجب أمرين .

أحدهما : الفشل ، وهو الجُبن والضَّعف .

والثاني : " تَذْهبَ ريحُكُمْ " .

قال مجاهدٌ : نصرتكم{[17387]} .

وقال السُّديُّ : جراءتكم وجدكم{[17388]} .

وقال مقاتل : حدَّتكم{[17389]} .

وقال النضرُ بنُ شُميلٍ : قُوَّتكم{[17390]} . وقال الأخفشُ : دولتكم . و " الرِّيح " هاهنا - كنايةٌ عن بقاء الأمر وجريانه على المرادِ ؛ تقول العربُ : " هَبَّت ريحُ فلان " إذا أقبل أمره على ما يريدُ ، وهو كنايةُ عن الدَّوْلة والغلبة ؛ قال : [ الوافر ]

إذَا هَبَّتْ رياحُكَ فاغْتَنِمْهَا *** فإنَّ لِكُلِّ عَاصِفَةٍ سُكُونَا{[17391]}

ورواه أبو عبيدٍ " رُكُوداً " .

وقال آخر : [ البسيط ]

أتَنْظُرانِ قَلِيلاً رَيْثُ غَفْلتِهِم *** أو تَعْدُوانِ فإنَّ الرِّيحَ للْعَادِي{[17392]}

وقال : [ البسيط ]

قَدْ عَوَّدْتُهُمْ ظبَاهُمْ أن يكُونَ لَهُمْ *** ريحُ القتالِ وأسْلابُ الَّذينَ لَقُوا{[17393]}

وقيل : الريح : الهيبةُ ، وهو قريبٌ من الأولِ ؛ كقوله : [ البسيط ]

كَمَا حَميناكَ يْوْمَ النَّعْفِ من شَطَطِ *** والفَضلُ لِلْقومِ منْ ريحٍ ومِنْ عَدَدِ{[17394]}

وقال قتادة وابن زيد : " هو ريح النصر ، ولم يكن نصر قط إلاَّ بريحٍ يبعثُهَا اللَّهُ تضرب وجوه العدوّ " {[17395]} .

ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " نُصِرْتُ بالصَّبَا وأهْلِكَتْ عَادٌ بالدَّبُورِ " {[17396]}

وقال النعمانُ بنُ مقرن : " شَهِدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذَا لم يُقاتِل في أول النَّهارِ ، انتظر حتَّى تزولَ الشَّمسُ ، وتهب الريح ، وينزل النّصر " {[17397]}

قوله " تَفْشَلُوا " يحتملُ وجهين :

أحدهما : نصبٌ على جواب النَّهي .

والثاني : الجزم عطفاً على فعل النَّهْي قبله ، وقد تقدَّم تحقيقهما في " وتَخُونُوا " قبل ذلك ، ويدُلُّ على الثاني قراءة عيسى{[17398]} بن عمر " ويَذْهَبْ " بياء الغيبة وحزمه ، ونقل أبو البقاء قراءة الجزم ولم يُقيِّدها بياء الغيبة .

وقرأ أبُو حيوة وأبان{[17399]} وعصمة " ويَذْهَبَ " بياء الغيبة ونصبه .

وقرأ الحسنُ{[17400]} " فَتَفْشِلُوا " بكسر الشين ، قال أبو حاتمٍ : " هذا غيرُ معروفٍ " وقال غيره : إنَّها لغةٌ ثانية .

فصل

احتجَّ نُفاة القياسِ بهذه الآية فقالوا : القياس يفضي إلى المنازعةِ ، والمنازعةُ محرَّمةٌ بهذه الآية ؛ فوجب أن يكون العمل بالقياس محرماً ببيان الملازمة ، فإنّا نشاهد الدُّنيا مَمْلُوءةً من الاختلافات بسبب القياس .

وأيضاً القائلون بأنَّ النَّص لا يجوز تخصيصه بالقياس تَمَسَّكُوا بهذه الآية ، وقالوا : قوله تعالى : { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } صريح في وجوب طاعة الله ورسوله في كل ما نصَّا عليه ، ثم أتبعه بقوله : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } ومَنْ تمسَّك بالقياس المخصص بالنَّصِّ فقد ترك طاعة اللَّهِ وطاعة رسوله ، وتمسَّك بالقياس الذي يوجب التنازع والفشل ، وكلُّ ذلك حرام . والجوابُ : بأنَّهُ ليس كلُّ قياس يوجب المنازعة .

قوله : " ولا تنَازَعُوا " معطوف على قوله : " فاثْبُتُوا " وهو جواب الشَّرطِ في قوله : { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً } فالمحرَّم التنازع عند لقاء فئة الكُفَّارِ ، فلا حجة فيها ، وأيضاً : فقد ترتَّب على التنازع الفشل وذهاب الريح التي هي الدولة ، وذلك لا يترتَّب على القياس .

ثم قال : { واصبروا إِنَّ الله مَعَ الصابرين } والمقصودُ أنَّ كمال أمر الجهادِ مبنيٌّ على الصَّبْرِ فأمرهم بالصبر . كما قال في آية أخرى : { اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ } [ آل عمران : 200 ] . عن سالم أبي النضر مولى عُمَر بن عُبيدِ اللَّهِ وكان كاتباً له ، قال : كتب إليه عبدُ الله بن أبِي أوفَى أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيَّامِهِ الَّتي لقيَ فيها العَدُو ، انتظر حتَّى مالتِ الشَّمْسُ ، ثمَّ قام في النَّاس ، فقال : " يا أيُّهَا النَّاسُ لا تَتمنوا لقاء العدُوّ ، واسألوا اللَّهَ العَافيةَ فإذا لقِيتُمُوهم فاصْبِرُوا ، واعلَمُوا أنَّ الجنَّة تحتَ ظلالِ السُّيُوفِ " ثم قال : " اللَّهُمَّ مُنزلَ الكتابِ ، ومُجْرِي السَّحابِ ، وهازِمَ الأحْزابِ ، اهزمْهُمْ ، وانْصُرْنا عليْهِمْ " {[17401]}


[17387]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/261) وذكره البغوي في "معالم التنزيل" (2/253).
[17388]:انظر المصادر السابقة.
[17389]:انظر "معالم التنزيل" للبغوي (2/253).
[17390]:انظر المصدر السابق.
[17391]:البيت من شواهد البحر 4/499 تفسير القرطبي 8/24 روح المعاني 10/14 حاشية الشهاب 4/280 الدر المصون 3/425.
[17392]:البيت اختلف في نسبته فقيل لتأبط شرا، وقيل لسليك بن سلكة وقيل للأعشى ينظر: الكشاف 2/177 اللسان 3/1764 البحر المحيط 4/499، الدر المصون 3/426.
[17393]:البيت لشاعر من شعراء الأنصار ينظر: تفسير ابن عطية (2/537) والبحر المحيط (4/499) الدر المصون 3/446.
[17394]:البيت لعبيدة بن الأبرص في ديوانه 56 وفيه "من شطط" ينظر: تفسير الطبري 13/575 البحر المحيط 4/500 الدر المصون 3/426.
[17395]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/261) عن ابن زيد.
[17396]:أخرجه البخاري (2/520) كتاب الاستسقاء: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم نصرت بالصبا حديث (1035) ومسلم (2/617) كتاب الاستسقاء: باب في ريح الصبا وأحمد (1/223، 228) من حديث ابن عباس.
[17397]:أخرجه أبو داود (2655) والترمذي (4/160) رقم (1613) وأحمد (5/444-445) والحاكم (2/116) من حديث النعمان بن مقرن. وقال الترميذي: هذا الحديث حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
[17398]:ينظر" الكشاف 2/226، المحرر الوجيز 2/536، البحر المحيط 4/499، الدر المصون 3/425.
[17399]:المصادر السابقة.
[17400]:قاله أبو حاتم عن إبراهيم. ينظر: المحرر الوجيز 2/536، البحر المحيط 4/499، إتحاف 2/81.
[17401]:أخرجه البخاري (6/120) كتاب الجهاد: باب كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل حديث (2966) ومسلم (3/1362-1363) كتاب الجهاد والسير: باب كراهة تمني لقاء العدو (20/1742) من حديث سالم أبي النضر.