مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ} (2)

قوله تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون }

اعلم أنه تعالى لما قال : { وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين } واقتضى ذلك كون الإيمان مستلزما للطاعة ، شرح ذلك في هذه الآية مزيد شرح وتفصيل ، وبين أن الإيمان لا يحصل إلا عند حصول هذه الطاعات فقال : { إنما المؤمنون } الآية . واعلم أن هذه الآية تدل على أن الإيمان لا يحصل إلا عند حصول أمور خمسة : الأول : قوله : { الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } قال الواحدي يقال : وجل يوجل وجلا ، فهو وجل ، وأوجل إذا خاف . قال الشاعر :

لعمرك ما أدري وإني لأوجل *** على أينا تعدو المنية أول

والمراد أن المؤمن إنما يكون مؤمنا إذا كان خائفا من الله ، ونظيره قوله تعالى : { تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } وقوله : { الذين هم من خشية ربهم مشفقون } وقوله : { الذين هم في صلاتهم خاشعون } وقال أصحاب الحقائق : الخوف على قسمين : خوف العقاب ، وخوف العظمة والجلال . أما خوف العقاب فهو للعصاة . وأما خوف الجلال والعظمة فهو لا يزول عن قلب أحد من المخلوقين ، سواء كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا ، وذلك لأنه تعالى غني لذاته عن كل الموجودات وما سواه من الموجودات فمحتاجون إليه ، والمحتاج إذا حضر عند الملك الغني يهابه ويخافه ، وليست تلك الهيبة من العقاب ، بل مجرد علمه بكونه غنيا عنه ، وكونه محتاجا إليه يوجب تلك المهابة ، وذلك الخوف .

إذا عرفت هذا فنقول : إن كان المراد من الوجل القسم الأول ، فذلك لا يحصل من مجرد ذكر الله ، وإنما يحصل من ذكر عقاب الله . وهذا هو اللائق بهذا الموضع ، لأن المقصود من هذه الآية إلزام أصحاب بدر طاعة الله وطاعة الرسول في قسمة الأنفال ، وأما إن كان المراد من الوجل القسم الثاني ، فذلك لازم من مجرد ذكر الله ، ولا حاجة في الآية إلى الإضمار .

فإن قيل : إنه تعالى قال ههنا { وجلت قلوبهم } وقال في آية أخرى : { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله } فكيف الجمع بينهما ؟ وأيضا قال في آية أخرى : { ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } قلنا : الاطمئنان إنما يكون عن ثلج اليقين ، وشرح الصدر بمعرفة التوحيد ، والوجل إنما يكون من خوف العقوبة ، ولا منافاة بين هاتين الحالتين ، بل نقول : هذان الوصفان اجتمعا في آية واحدة ، وهي قوله تعالى : { تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } والمعنى : تقشعر الجلود من خوف عذاب الله ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند رجاء ثواب الله .

الصفة الثانية : قوله تعالى : { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } وهو كقوله : { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا } ثم فيه مسائل :

المسألة الأولى : زيادة الإيمان الذي هو التصديق على وجهين :

الوجه الأول : وهو الذي عليه عامة أهل العلم على ما حكاه الواحدي رحمه الله : أن كل من كانت الدلائل عنده أكثر وأقوى كان أزيد إيمانا ، لأن عند حصول كثرة الدلائل وقوتها يزول الشك ويقوى اليقين ، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح » يريد أن معرفته بالله أقوى .

ولقائل أن يقول : المراد من هذه الزيادة : إما قوة الدليل أو كثرة الدلائل . أما قوة الدليل فباطل ، وذلك لأن كل دليل فهو مركب لا محالة من مقدمات ، وتلك المقدمات إما أن يكون مجزوما بها جزما مانعا من النقيض أو لا يكون فإن كان الجزم المانع من النقيض حاصلا في كل المقدمات ، امتنع كون بعض الدلائل أقوى من بعض على هذا التفسير ، لأن الجزم المانع من النقيض لا يقبل التفاوت ، وأما إن كان الجزم المانع من النقيض غير حاصل إما في الكل أو في البعض فذلك لا يكون دليلا ، بل أمارة ، والنتيجة الحاصلة منها لا تكون علما بل ظنا ، فثبت بما ذكرنا أن حصول التفاوت في الدلائل بسبب القوة محال ، وأما حصول التفاوت بسبب كثرة الدلائل فالأمر كذلك ، لأن الجزم الحاصل بسبب الدليل الواحد ، إن كان مانعا من النقيض فيمتنع أن يصير أقوى عند اجتماع الدلائل الكثيرة ، وإن كان غير مانع من النقيض لم يكن دليلا ، بل كان أمارة ولم تكن النتيجة معلومة بل مظنونة ، فثبت أن هذا التأويل ضعيف .

واعلم أنه يمكن أن يقال : المراد من هذه الزيادة الدوام وعدم الدوام ، وذلك لأن بعض المستدلين لا يكون مستحضرا للدليل والمدلول إلا لحظة واحدة ، ومنهم من يكون مداوما لتلك الحالة وبين هذين الطرفين أوساط مختلفة ، ومراتب متفاوتة ، وهو المراد من الزيادة .

والوجه الثاني : من زيادة التصديق أنهم يصدقون بكل ما يتلى عليهم من عند الله ، ولما كانت التكاليف متوالية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم متعاقبة ، فعند حدوث كل تكليف كانوا يزيدون تصديقا وإقرارا ، ومن المعلوم أن من صدق إنسانا في شيئين كان تصديقه له أكثر من تصديق من صدقه في شيء واحد . وقوله : { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } معناه : أنهم كلما سمعوا آية جديدة أتوا بإقرار جديد فكان ذلك زيادة في الإيمان والتصديق ، وفي الآية وجه ثالث : وهو أن كمال قدرة الله وحكمته ، إنما تعرف بواسطة آثار حكمة الله في مخلوقاته ، وهذا بحر لا ساحل له ، وكلما وقف عقل الإنسان على آثار حكمة الله في تخليق شيء آخر ، انتقل منه إلى طلب حكمة في تخليق شيء آخر ، فقد انتقل من مرتبة إلى مرتبة أخرى أعلى منها وأشرف وأكمل ، ولما كانت هذه المراتب لا نهاية لها ، لا جرم لا نهاية لمراتب التجلي والكشف والمعرفة .

المسألة الثانية : اختلفوا في أن الإيمان هل يقبل الزيادة والنقصان أم لا ؟ أما الذين قالوا : الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل ، فقد احتجوا بهذه الآية من وجهين : الأول : أن قوله : { زادتهم إيمانا } يدل على أن الإيمان يقبل الزيادة ، ولو كان الإيمان عبارة عن المعرفة والإقرار لما قبل الزيادة . والثاني : أنه تعالى لما ذكر هذه الأمور الخمسة . قال : في الموصوفين بها { أولئك هم المؤمنون حقا } وذلك يدل على أن كل تلك الخصال داخل في مسمى الإيمان . وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان » واحتجوا بهذه الآية على أن الإيمان عبارة عن مجموع الأركان الثلاثة . قالوا : لأن الآية صريحة في أن الإيمان يقبل الزيادة ، والمعرفة والإقرار لا يقبلان التفاوت ، فوجب أن يكون الإيمان عبارة عن مجموع الإقرار والاعتقاد والعمل ، حتى أن بسبب دخول التفاوت في العمل يظهر التفاوت في الإيمان ، وهذا الاستدلال ضعيف ، لما بينا أن التفاوت بالدوام وعدم الدوام حاصل في الاعتقاد والإقرار ، وهذا القدر يكفي في حصول التفاوت في الإيمان ، والله أعلم .

المسألة الثالثة : قوله : { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } ظاهره مشعر بأن تلك الآيات هي المؤثرة في حصول الزيادة في الإيمان ، وليس الأمر كذلك ، لأن نفس تلك الآيات لا توجب الزيادة ، بل إن كان ولا بد فالموجب هو سماع تلك الآيات أو معرفة تلك الآيات توجب زيادة في المعرفة والتصديق والله أعلم .

الصفة الثالثة : للمؤمنين قوله تعالى : { وعلى ربهم يتوكلون } واعلم أن صفة المؤمنين أن يكونوا واثقين بالصدق في وعده ووعيده ، وأن يقولوا صدق الله ورسوله ، وأن لا يكون قولهم كقول المنافقين { ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا } ثم نقول : هذا الكلام يفيد الحصر ، ومعناه : أنهم لا يتوكلون إلا على ربهم ، وهذه الحالة مرتبة عالية ودرجة شريفة ، وهي : أن الإنسان بحيث يصير لا يبقى له اعتماد في أمر من الأمور إلا على الله .

واعلم أن هذه الصفات الثلاثة مرتبة على أحسن جهات الترتيب ، فإن المرتبة الأولى هي : الوجل من عقاب الله .

والمرتبة الثانية : هي الانقياد لمقامات التكاليف لله .

والمرتبة الثالثة : هي الانقطاع بالكلية عما سوى الله ، والاعتماد بالكلية على فضل الله ، بل الغنى بالكلية عما سوى الله تعالى .