مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ} (4)

واعلم أن الله تعالى لما ذكر هذه الصفات الخمس : أثبت للموصوفين بها أمورا ثلاثة : الأول : قوله : { أولئك هم المؤمنون حقا } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قوله : { حقا } بماذا يتصل . فيه قولان : أحدهما : بقوله : { هم المؤمنون } أي هم المؤمنون بالحقيقة . والثاني : أنه تم الكلام عند قوله : { أولئك هم المؤمنون } ثم ابتدأ وقال : { حقا لهم درجات } .

المسألة الثانية : ذكروا في انتصاب { حقا } وجوها : الأول : قال الفراء : التقدير : أخبركم بذلك حقا ، أي أخبارا حقا ، ونظيره قوله : { أولئك هم الكافرون حقا } والثاني : قال سيبويه : إنه مصدر مؤكد لفعل محذوف يدل عليه الكلام ، والتقدير : وإن الذي فعلوه كان حقا صدقا . الثالث : قال الزجاج . التقدير : أولئك هم المؤمنون أحق ذلك حقا .

المسألة الثالثة : اتفقوا على أنه يجوز للمؤمن أن يقول أنا مؤمن ، واختلفوا في أنه هل يجوز للرجل أن يقول أنا مؤمن حقا أم لا ؟ فقال أصحاب الشافعي : الأولى أن يقول الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله ، ولا يقول أنا مؤمن حقا . وقال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله : الأولى أن يقول أنا مؤمن حقا ، ولا يجوز أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، أما الذين قالوا إنه يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، فلهم فيه مقامان :

المقام الأول : أن يكون ذلك لأجل حصول الشك في حصول الإيمان .

المقام الثاني : أن لا يكون الأمر كذلك . أما المقام الأول ، فتقريره : أن الإيمان عند الشافعي رضي الله عنه عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل . ولا شك أن كون الإنسان آتيا بالأعمال الصالحة أمر مشكوك فيه ، والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في حصول تلك الماهية ، فالإنسان وإن كان جازما بحصول الاعتقاد والإقرار ، إلا أنه لما كان شاكا في حصول العمل كان هذا القدر يوجب كونه شاكا في حصول الإيمان ، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله ، فلما كان الإيمان اسما للاعتقاد والقول ، وكان العمل خارجا عن مسمى الإيمان ، لم يلزم من الشك في حصول الأعمال الشك في الإيمان . فثبت أن من قال إن الإيمان عبارة عن مجموع الأمور الثلاثة يلزمه وقوع الشك في الإيمان ، ومن قال العمل خارج عن مسمى الإيمان يلزمه نفي الشك عن الإيمان ، وعند هذا ظهر أن الخلاف ليس إلا في اللفظ فقط . وأما المقام الثاني : وهو أن نقول : إن قوله : أنا مؤمن إن شاء الله ليس لأجل الشك ، فيه وجوه : الأول : أن كون الرجل مؤمنا أشرف صفاته وأعرف نعوته وأحواله ، فإذا قال أنا مؤمن ، فكأنه مدح نفسه بأعظم المدائح . فوجب أن يقول : إن شاء الله ليصير هذا سببا لحصول الانكسار في القلب وزوال العجب . روي أن أبا حنيفة رحمه الله ، قال لقتادة : لم تستثني في إيمانك . قال اتباعا لإبراهيم عليه السلام في قوله : { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } فقال أبو حنيفة رحمه الله : هلا اقتديت به في قوله : { أولم تؤمن قال بلى } وأقول : كان لقتادة أن يجيب ، ويقول : إنه بعد أن قال : { بلى } قال : { ولكن ليطمئن قلبي } فطلب مزيد الطمأنينة ، وهذا يدل على أنه لا بد من قول إن شاء الله .

الثاني : أنه تعالى ذكر في هذه الآية أن الرجل لا يكون مؤمنا إلا إذا كان موصوفا بالصفات الخمسة ، وهي الخوف من الله ، والإخلاص في دين الله ، والتوكل على الله ، والإتيان بالصلاة والزكاة لوجه الله تعالى . وذكر في أول الآية ما يدل على الحصر ، وهو قوله : { إنما المؤمنون الذين } هم كذا وكذا . وذكر في آخر الآية قوله : { أولئك هم المؤمنون حقا } وهذا أيضا يفيد الحصر ، فلما دلت هذه الآية على هذا المعنى ، ثم إن الإنسان لا يمكنه القطع على نفسه بحصول هذه الصفات الخمس ، لا جرم كان الأولى أن يقول : إن شاء الله . وروى أن الحسن سأله رجل وقال : أمؤمن أنت ؟ فقال : الإيمان إيمانان ، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، فأنا مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قوله : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا ؟

الثالث : أن القرآن العظيم دل على أن كل من كان مؤمنا ، كان من أهل الجنة فالقطع بكونه مؤمنا يوجب القطع بكونه من أهل الجنة ، وذلك لا سبيل إليه ، فكذا هذا . ونقل عن الثوري أنه قال : من زعم أنه مؤمن بالله حقا ، ثم لم يشهد بأنه من أهل الجنة ، فقد آمن بنصف الآية . والمقصود أنه كما لا سبيل إلى القطع بأنه من أهل الجنة ، فكذلك لا سبيل إلى القطع بأنه مؤمن .

الرابع : أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب وعن المعرفة ، وعلى هذا فالرجل إنما يكون مؤمنا في الحقيقة عندما يكون هذا التصديق وهذه المعرفة حاصلة في القلب حاضرة في الخاطر ، فأما عند زوال هذا المعنى ، فهو إنما يكون مؤمنا بحسب حكم الله ، أما في نفس الأمر فلا .

إذا عرفت هذا لم يبعد أن يكون المراد بقوله إن شاء الله عائدا إلى استدامة مسمى الإيمان واستحضار معناه أبدا دائما من غير حصول ذهول وغفلة عنه ، وهذا المعنى محتمل . الخامس : أن أصحاب الموافاة يقولون : شرط كونه مؤمنا في الحال حصول الموافاة على الإيمان ، وهذا الشرط لا يحصل إلا عند الموت ، ويكون مجهولا ، والموقوف على المجهول مجهول . فلهذا السبب حسن أن يقال : أنا مؤمن إن شاء الله .

السادس : أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله عند الموت ، والمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة والعاقبة ، فإن الرجل وإن كان مؤمنا في الحال ، إلا أن بتقدير أن لا يبقى ذلك الإيمان في العاقبة ، كان وجوده كعدمه ، ولم تحصل فائدة أصلا ، فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء هذا المعنى .

السابع : أن ذكر هذه الكلمة لا ينافي حصول الجزم والقطع ، ألا ترى أنه تعالى قال : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } وهو تعالى منزه عن الشك والريب . فثبت أنه تعالى إنما ذكر ذلك تعليما منه لعباده ، هذا المعنى ، فكذا ههنا الأولى ذكر هذه الكلمة الدالة على تفويض الأمور إلى الله ، حتى يحصل ببركة هذه الكلمة دوام الإيمان .

الثامن : أن جماعة من السلف ذكروا هذه الكلمة ، ورأينا لهم ما يقويه في كتاب الله وهو قوله تعالى : { أولئك هم المؤمنون حقا } وهم المؤمنون في علم الله وفي حكمه ، وذلك يدل على وجود جمع يكونون مؤمنين ، وعلى وجود جمع لا يكونون كذلك . فالمؤمن يقول : إن شاء الله حتى يجعله الله ببركة هذه الكلمة من القسم الأول لا من القسم الثاني . أما القائلون : أنه لا يجوز ذكر هذه الكلمة فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه : الأول : أن المتحرك يجوز أن يقول : أنا متحرك ولا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء الله ، وكذا القول في القائم والقاعد ، فكذا ههنا وجب أن يكون المؤمن مؤمنا ، ولا يجوز أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، وكما أن خروج الجسم عن كونه متحركا في المستقبل لا يمنع من الحكم عليه بكونه متحركا حال قيام الحركة به فكذلك احتمال زوال الإيمان في المستقبل ، لا يقدح في كونه مؤمنا في الحال . الثاني : أنه تعالى قال : { أولئك هم المؤمنون حقا } فقد حكم تعالى عليهم بكونهم مؤمنين حقا فكان قوله إن شاء الله يوجب الشك فيما قطع الله عليه بالحصول وذلك لا يجوز .

والجواب عن الأول : أن الفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمنا ، وبين وصفه بكونه متحركا ، حاصل من الوجوه الكثيرة التي ذكرناها ، وعند حصول الفرق يتعذر الجمع ، وعن الثاني أنه تعالى حكم على الموصوفين بالصفات المذكورة بكونهم مؤمنين حقا ، وذلك الشرط مشكوك فيه ، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط . فهذا يقوي عين مذهبنا . والله أعلم .

الحكم الثاني

من الأحكام التي أثبتها الله تعالى للموصوفين بالصفات الخمسة قوله تعالى : { لهم درجات عند ربهم } والمعنى : لهم مراتب بعضها أعلى من بعض .

واعلم أن الصفات المذكورة قسمان : الثلاثة الأول : هي الصفات القلبية والأحوال الروحانية ، وهي الخوف والإخلاص والتوكل . والاثنتان الأخيرتان هما الأعمال الظاهرة والأخلاق . ولا شك أن لهذه الأعمال والأخلاق تأثيرات في تصفية القلب ، وفي تنويره بالمعارف الإلهية . ولا شك أن المؤثر كلما كان أقوى كانت الآثار أقوى وبالضد ، فلما كانت هذه الأخلاق والأعمال لها درجات ومراتب . كانت المعارف أيضا لها درجات ومراتب ، وذلك هو المراد من قوله : { لهم درجات عند ربهم } والثواب الحاصل في الجنة أيضا مقدر بمقدار هذه الأحوال . فثبت أن مراتب السعادات الروحانية قبل الموت وبعد الموت ، ومراتب السعادات الحاصلة في الجنة كثيرة ومختلفة ، فلهذا المعنى قال : { لهم درجات عند ربهم } .

فإن قيل : أليس أن المفضول إذا علم حصول الدرجات العالية للفاضل وحرمانه عنها ، فإنه يتألم قلبه ، ويتنغص عيشه . وذلك مخل بكون الثواب رزقا كريما ؟

والجواب : أن استغراق كل واحد في سعادته الخاصة به تمنعه من حصول الحقد والحسد ، وبالجملة فأحوال الآخرة لا تناسب أحوال الدنيا إلا بالاسم .

الحكم الثالث والرابع

أن قوله : { ومغفرة ورزق كريم } المراد من المغفرة أن يتجاوز الله عن سيئاتهم ومن الرزق الكريم نعيم الجنة . قال المتكلمون : أما كونه رزقا كريما فهو إشارة إلى كون تلك المنافع خالصة دائمة مقرونة بالإكرام والتعظيم ، ومجموع ذلك هو حد الثواب . وقال العارفون : المراد من المغفرة إزالة الظلمات الحاصلة بسبب الاشتغال بغير الله ، ومن الرزق الكريم الأنوار الحاصلة بسبب الاستغراق في معرفة الله ومحبته . قال الواحدي : قال أهل اللغة : الكريم اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن ، والكريم المحمود فيما يحتاج إليه ، والله تعالى موصوف بأنه كريم والقرآن موصوف بأنه كريم . قال تعالى : { إني ألقي إلي كتاب كريم } وقال : { من كل زوج كريم } وقال : { ويدخلكم مدخلا كريما } وقال : { وقل لهما قولا كريما } فالرزق الكريم هو الشريف الفاضل الحسن . وقال هشام ابن عروة : يعني ما أعد الله لهم في الجنة من لذيذ المآكل والمشارب وهناء العيش ، وأقول يجب ههنا أن نبين أن اللذات الروحانية أكمل من اللذات الجسمانية ، وقد ذكرنا هذا المعنى في هذا الكتاب في مواضع كثيرة وعند هذا يظهر أن الرزق الكريم هو اللذات الروحانية وهي معرفة الله ومحبته والاستغراق في عبوديته .

فإن قال قائل : ظاهر الآية يدل على أن الموصوف بالأمور الخمسة محكوم عليه بالنجاة من العقاب وبالفوز بالثواب ، وذلك يقتضي أن لا تكليف على العبد فيما سوى هذه الخمسة وذلك باطل بإجماع المسلمين ، لأنه لا بد من الصوم والحج وأداء سائر الواجبات .

قلنا : إنه تعالى بدأ بقوله : { الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون } وجميع التكاليف داخل تحت هذين الكلامين ، إلا أنه تعالى خص من الصفات الباطنة التوكل بالذكر على التعيين ، ومن الأعمال الظاهرة الصلاة والزكاة على التعيين ، تنبيها على أن أشرف الأحوال الباطنة ، التوكل وأشرف الأعمال الظاهرة ، الصلاة والزكاة .