مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِذۡ تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلۡفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ مُرۡدِفِينَ} (9)

قوله تعالى : { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين }

اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه يحق الحق ويبطل الباطل ، بين أنه تعالى نصرهم عند الاستغاثة ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : يجوز أن يكون العامل في { إذ } هو قوله : { ويبطل الباطل } فتكون الآية متصلة بما قبلها ، ويجوز أن تكون الآية مستأنفة على تقدير واذكروا إذ تستغيثون .

المسألة الثانية : في قوله : { إذ تستغيثون } قولان :

القول الأول : أن هذه الاستغاثة كانت من الرسول عليه السلام . قال ابن عباس : حدثني عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلثمائة ونيف ، استقبل القبلة ومد يده وهو يقول : «اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض » ولم يزل كذلك حتى سقط رداؤه ورده أبو بكر ثم التزمه ثم قال : كفاك يا نبي الله مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك ، فنزلت هذه الآية ولما اصطفت القوم قال أبو جهل : اللهم أولانا بالحق فانصرو ورفع رسول الله يده بالدعاء المذكور .

القول الثاني : أن هذه الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين لأن الوجه الذي لأجله أقدم الرسول على الاستغاثة كان حاصلا فيهم ، بل خوفهم كان أشد من خوف الرسول ، فالأقرب أنه دعا عليه السلام وتضرع على ما روي ، والقوم كانوا يؤمنون على دعائه تابعين له في الدعاء في أنفسهم فنقل دعاء رسول الله لأنه رفع بذلك الدعاء صوته ، ولم ينقل دعاء القوم ، فهذا هو طريق الجمع بين الروايات المختلفة في هذا الباب .

المسألة الثالثة : قوله : { إذ تستغيثون } أي تطلبون الإغاثة يقول الواقع في بلية أغثني أي فرج عني .

واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم الاستغاثة بين أنه تعالى أجابهم . وقال : { إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قوله : { إني ممدكم } أصله بأني ممدكم ، فحذف الجار وسلط عليه استجاب ، فنصب محله ، وعن أبي عمرو : أنه قرأ { أني ممدكم } بالكسر على إرادة القول أو على إجراء استجاب مجرى . قال لأن الاستجابة من القول .

المسألة الثانية : قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم { مردفين } بفتح الدال والباقون بكسرها . قال الفراء : { مردفين } أي متتابعين يأتي بعضهم في أثر بعض كالقوم الذين أردفوا على الدواب و{ مردفين } أي فعل بهم ذلك ، ومعناه أنه تعالى أردف المسلمين وأيدهم بهم .

المسألة الثالثة : اختلفوا في أن الملائكة هل قاتلوا يوم بدر ؟ فقال قوم نزل جبريل عليه السلام في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر ، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة ، وفيها علي بن أبي طالب في صورة الرجال عليهم ثيابهم بيض وقاتلوا . وقيل قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ويوم حنين ، وعن أبي جهل أنه قال لابن مسعود : من أين كان الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصا قال هو من الملائكة فقال أبو جهل : هم غلبونا لا أنتم ، وروى أن رجلا من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالصوت فوقه فنظر إلى المشرك وقد خر مستلقيا وقد شق وجهه فحدث الأنصاري رسول الله فقال صدقت . ذاك من مدد السماء ، وقال آخرون : لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين ، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك الدنيا كلها فإن جبريل أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط وأهلك بلاد ثمود وقوم صالح بصيحة واحدة ، والكلام في كيفية هذا الإمداد مذكور في سورة آل عمران بالاستقصاء والذي يدل على صحة أن الملائكة ما نزلوا للقتال