اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ أَعۡظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ} (20)

قوله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله } الآية .

لمَّا ذكر ترجيح الإيمان ، والجهاد على السِّقاية وعمارة المسجد الحرام على طريق الرمز ؛ أتبعه بذكر هذا التَّرجيح بالتَّصريح ، أي : مَنْ كان موصوفاً بهذه الصِّفات الأربعة كان أعظم درجة عند الله ممَّن اتَّصف بالسِّقاية والعمارة ، والسَّبب فيه ؛ لأن الإنسان ليس له إلاَّ الروح ، والبدن ، والمال ، فأمَّا الرُّوح فإنه لمَّا زال عنه الكفر ، وحصل فيه الإيمان ، فقد وصل إلى مراتب السعادات وأما البدن والمال ، فبالهجرة والجهادِ صارا معرَّضين للهلاك ، ولا شكَّ أنَّ النفس والمال محبوب الإنسان ، والإنسان لا يعرض عن محبوبه إلاَّ عند الفوز بمحبوب أكمل من الأوَّلِ ، فلولا أنَّ طلب الرضوان أتمُّ عندهم من النفس والمال ؛ وإلاَّ لما رجَّحُوا جانب الآخرة على النفس والمال طلباً لمرضاة الله تعالى ، وأي مناسبة بين هذه الدرجة وبين الإقدام على السِّقاية والعمارة بمجرد الاقتداء بالآباء ، وطلب الرياسة والسُّمعة ؟

قوله : { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله } لم يقُلْ : أعظم درجة من المشتغلين بالسقاية والعمارة ؛ لأنَّه لو ذكرهم ، أوهم أن تلك الفضيلة بالنسبة إليهم ، فلمَّا ترك ذكر المرجوح ، دلَّ ذلك على أنَّهُمْ أفضل من كل من سواهم على الإطلاق .

فإن قيل : لمَّا أخبرتم بأنَّ هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين ، فكيف قال في وصفهم : " أعْظَمُ دَرَجَةً " ؟ .

فالجوابُ من وجوه :

الأول : أن هذا ورد على ما قدَّرُوا لأنفسهم من الدَّرجة والفضيلة عند الله ، ونظيره قوله تعالى : { ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } [ النمل : 59 ] ، وقوله { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم } [ الصافات : 63 ] .

الثاني : أنَّ المراد : أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بهذه الصفات ، تنبيها على أنَّهم لمَّا كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى .

الثالث : أن المراد ، أنَّ المؤمن المُهاجِرَ المجاهد أفضل ممَّن على السقاية والعمارة ، والمراد منه : ترجيح تلك الأعمال على هذه الأعمال ، ولا شك أنَّ السِّقاية والعمارة من أعمال الخير ، وإنَّما بطل ثوابها في حقِّ الكفار ؛ لأن الكفر منع من ظهور ذلك الأثر ، ثُم بيَّن تعالى أنهم : " هُمُ الفائِزُون " وهذا للحصر ، والمعنى : أنهم هم الفائزون بالدرجة العلية المشار إليها بقوله : " عِنْدَ اللهِ " وليس المراد منه العندية بحسب الجهة والمكان .