مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تُتۡرَكُواْ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَلَمۡ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَا رَسُولِهِۦ وَلَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَلِيجَةٗۚ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ} (16)

قوله تعالى : { أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون }

اعلم أن الآيات المتقدمة كانت مرغبة في الجهاد ، والمقصود من هذه الآية مزيد بيان في الترغيب ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال الفراء : قوله : { أم } من الاستفهام الذي يتوسط الكلام ، ولو أريد به الابتداء لكان بالألف أو بها .

المسألة الثانية : قال أبو عبيدة : كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة وأصله من الولوج فالداخل الذي يكون في القوم وليس منهم وليجة ، فالوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل . قال الواحدي : يقال هو وليجتي وهم وليجتي للواحد والجمع .

المسألة الثالثة : المقصود من الآية بيان أن المكلف في هذه الواقعة لا يتخلص عن العقاب إلا عند حصول أمرين : الأول : أن يعلم الله الذين جاهدوا منكم ، وذكر العلم والمراد منه المعلوم ، والمراد أن يصدر الجهاد عنهم إلا أنه إنما كان وجود الشيء يلزمه معلوم الوجود عند الله ، لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده ، واحتج هشام بن الحكم بهذه الآية على أنه تعالى لا يعلم الشيء إلا حال وجوده .

واعلم أن ظاهر الآية وإن كان يوهم ما ذكره إلا أن المقصود ما بيناه . والثاني : قوله : { ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة } والمقصود من ذكر هذا الشرط أن المجاهد قد يجاهد ولا يكون مخلصا بل يكون منافقا ، باطنه خلاف ظاهره ، وهو الذي يتخذ الوليجة من دون الله ورسوله والمؤمنين ، فبين تعالى أنه لا يتركهم إلا إذا أتوا بالجهاد مع الإخلاص خاليا عن النفاق والرياء والتودد إلى الكفار وإبطال ما يخالف طريقة الدين . والمقصود بيان أنه ليس الغرض من إيجاب القتال نفس القتال فقط ، بل الغرض أن يؤتى به انقيادا لأمر الله عز وجل ولحكمه وتكليفه ، ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله تعالى فحينئذ يحصل به الانتفاع ، وأما الإقدام على القتال لسائر الأغراض فذاك مما لا يفيد أصلا .

ثم قال : { والله خبير بما تعملون } أي عالم بنياتهم وأغراضهم مطلع عليها لا يخفى عليه منها شيء ، فيجب على الإنسان أن يبالغ في أمر النية ورعاية القلب . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الله لا يرضى أن يكون الباطن خلاف الظاهر ، وإنما يريد الله من خلقه الاستقامة كما قال : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } قال : ولما فرض القتال تبين المنافق من غيره وتميز من يوالي المؤمنين ممن يعاديهم .