مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞أَجَعَلۡتُمۡ سِقَايَةَ ٱلۡحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ لَا يَسۡتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (19)

قوله تعالى : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين }

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : ذكر المفسرون أقوالا في نزول الآية . قال ابن عباس في بعض الروايات عنه أن عليا لما أغلظ الكلام للعباس ، قال العباس : إن كنتم سبقتمونا بالإسلام ، والهجرة ، والجهاد فلقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج فنزلت هذه الآية ، وقيل إن المشركين قالوا لليهود ، نحن سقاة الحاج وعمار المسجد الحرام ، فنحن أفضل أم محمد وأصحابه ؟ فقالت اليهود لهم أنتم أفضل . وقيل : إن عليا عليه السلام قال للعباس رضي الله عنه بعد إسلامه : يا عمي ألا تهاجرون ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ألست في أفضل من الهجرة ؟ أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام . فلما نزلت هذه الآية قال : ما أراني إلا تارك سقايتنا . فقال عليه الصلاة والسلام : «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرا » وقيل افتخر طلحة بن شيبة والعباس وعلي ، فقال طلحة : أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه ، ولو أردت بت فيه . قال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها . قال علي : أنا صاحب الجهاد . فأنزل الله تعالى هذه الآية . قال المصنف رضي الله عنه : حاصل الكلام أنه يحتمل أن يقال : هذه الآية مفاضلة جرت بين المسلمين ويحتمل أنها جرت بين المسلمين والكافرين . أما الذين قالوا إنها جرت بين المسلمين فقد احتجوا بقوله تعالى بعد هذه الآية في حق المؤمنين المهاجرين : { أعظم درجة عند الله } وهذا يقتضي أيضا أن يكون للمرجوح أيضا درجة عند الله ، وذلك لا يليق إلا بالمؤمن وسنجيب عن هذا الكلام إذا انتهينا إليه . وإما الذين قالوا : إنها جرت بين المسلمين والكافرين ، فقد احتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى : { كمن آمن بالله } وبين من آمن بالله وهذا هو الأقرب عندي . وتقرير الكلام أن نقول : إنا قد نقلنا في تفسير قوله تعالى : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله } أن العباس احتج على فضائل نفسه ، فأنه عمر المسجد الحرام وسقى الحاج فأجاب الله عنه بوجهين :

الوجه الأول : ما بين في الآية الأولى أن عمارة المسجد ، إنما توجب الفضيلة إذا كانت صادرة عن المؤمن ، أما إذا كانت صادرة عن الكافر فلا فائدة فيها البتة .

والوجه الثاني : من الجواب كل ما ذكره في هذه الآية ، وهو أن يقال : هب أنا سلمنا أن عمارة المسجد الحرام وسقي الحاج ، يوجب نوعا من أنواع الفضيلة ، إلا أنها بالنسبة إلى الإيمان بالله ، والجهاد قليل جدا . فكان ذكر هذه الأعمال في مقابلة الإيمان بالله والجهاد خطأ ، لأنه يقتضي مقابلة الشيء الشريف الرفيع جدا بالشيء الحقير التافه جدا ، وأنه باطل ، فهذا هو الوجه في تخريج هذه الآية ، وبهذا الطريق يحصل النظم الصحيح لهذه الآية بما قبلها .

المسألة الثانية : قال صاحب «الكشاف » : السقاية والعمارة مصدران من سقى وعمر كالصيانة والوقاية .

واعلم أن السقاية والعمارة فعل ، قوله : { من آمن بالله } إشارة إلى الفاعل ، فظاهر اللفظ يقتضي تشبيه الفعل بالفاعل ، والصفة بالذات وأنه محال ، فلا بد من التأويل وهو من وجهين : الأول : أن نقول التقدير أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كم آمن بالله ؟ ويقويه قراءة عبد الله بن الزبير ( سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام ) والثاني : أن نقول التقدير أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن بالله ؟ ونظيره قوله تعالى : { ليس البر أن تولوا وجوهكم } إلى قوله : { ولكن البر من آمن بالله } .

المسألة الثالثة : قال الحسن رحمه الله تعالى : كانت السقاية بنبيذ الزبيب ، وعن عمر أنه وجد نبيذ السقاية من الزبيب شديدا فكسر منه بالماء ثلاثا ، وقال إذا اشتد عليكم فاكسروا منه بالماء وأما عمارة المسجد الحرام فالمراد تجهيزه وتحسين صورة جدرانه ، ولما ذكر تعالى وصف الفريقين قال : { لا يستوون } ولكن لما كان نفي المساواة بينهما لا يفيد أن الراجح من هو ؟ نبه على الراجح بقوله : { والله لا يهدي القوم الظالمين } فبين أن الكافرين ظالمون لأنفسهم فإنهم خلقوا للإيمان وهم رضوا بالكفر وكانوا ظالمين ، لأن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه . وأيضا ظلموا المسجد الحرام ، فإنه تعالى خلقه ليكون موضعا لعبادة الله تعالى ، فجعلوه موضعا لعبادة الأوثان ، فكان هذا ظلما .