مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَيُذۡهِبۡ غَيۡظَ قُلُوبِهِمۡۗ وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (15)

{ ويذهب غيظ قلوبهم } فهذه هي المنافع الخمسة التي ذكرها الله تعالى في هذا القتال ، وكلها ترجع إلى تسكين الدواعي الناشئة من القوة الغضيبة ، وهي التشفي ودرك الثأر وإزالة الغيظ ، ولم يذكر تعالى فيها وجدان الأموال والفوز بالمطاعم والمشارب . وذلك لأن العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة ، فرغبهم في هذه المعاني لكونها لائقة بطباعهم ، بقي ههنا مباحث :

البحث الأول : أن هذه الأوصاف مناسبة لفتح مكة ، لأن ذلك جرى في تلك الواقعة مشاكل لهذه الأحوال ، ولهذا المعنى جاز أن يقال : الآية واردة فيه .

البحث الثاني : الآية دالة على المعجزة لأنه تعالى أخبر عن حصول هذه الأحوال ، وقد وقعت موافقة لهذه الأخبار فيكون ذلك إخبارا عن الغيب ، والإخبار عن الغيب معجز .

البحث الثالث : هذه الآية تدل على كون الصحابة مؤمنين في علم الله تعالى إيمانا حقيقيا ، لأنها تدل على أن قلوبهم كانت مملوءة من الغضب ، ومن الحمية لأجل الدين ، ومن الرغبة الشديدة في علو دين الإسلام ، وهذه الأحوال لا تحصل إلا في قلوب المؤمنين .

واعلم أن وصف الله لهم بذلك لا ينفي كونهم موصوفين بالرحمة والرأفة ، فإنه تعالى قال في صفتهم { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } وقال أيضا : { أشداء على الكفار رحماء بينهم } .

ثم قال : { ويتوب الله على من يشاء } قال الفراء والزجاج : هذا مذكور على سبيل الاستئناف ولا يمكن أن يكون جوابا لقوله : { قاتلوهم } لأن قوله : { ويتوب الله على من يشاء } لا يمكن جعله جزاء لمقاتلتهم مع الكفار . قالوا ونظيره : { فإن يشأ الله يختم على قلبك } وتم الكلام ههنا ، ثم استأنف فقال : { ويمح الله الباطل } ومن الناس من قال يمكن جعل هذه التوبة جزاء لتلك المقاتلة ، وبيانه من وجوه : الأول : أنه تعالى لما أمرهم بالمقاتلة ، فربما شق ذلك على بعضهم على ما ذهب إليه الأصم ، فإذا أقدموا على المقاتلة صار ذلك العمل جاريا مجرى التوبة عن تلك الكراهية . الثاني : أن حصول النصرة والظفر إنعام عظيم ، والعبد إذا شاهد توالي نعم الله لم يبعد أن يصير ذلك داعيا له إلى التوبة من جميع الذنوب ، الثالث : أنه إذا حصل النصر والظفر والفتح وكثرت الأموال والنعم وكانت لذاته تطلب بالطريق الحرام ، فإن عند حصول المال والجاه يمكن تحصيلها بطريق حلال ، فيصير كثرة المال والجاه داعيا إلى التوبة من هذه الوجوه . الرابع : قال بعضهم إن النفس شديدة الميل إلى الدنيا ولذاتها ، فإذا انفتحت أبواب الدنيا على الإنسان وأراد الله به خيرا ، عرف أن لذاتها حقيرة يسيرة ، فحينئذ تصير الدنيا حقيرة في عينه ، فيصير ذلك سببا لانقباض النفس عن الدنيا ، وهذا هو أحد الوجوه المذكورة في تفسير قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام : { هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } يعني أن بعد حصول هذا الملك لا يبقى للنفس اشتغال بطلب الدنيا ، ثم يعرف أن عند حصول هذا الملك الذي هو أعظم الممالك ، لا حاصل للدنيا ولا فائدة في لذاتها وشهواتها ، فحينئذ يعرض القلب عن الدنيا ولا يقيم لها وزنا ، فثبت أن حصول المقاتلة يفضي إلى المنافع الخمسة المذكورة وتلك المنافع حصولها يوجب التوبة ، فكانت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة ، وإنما قال : { على من يشاء } لأن وجدان الدنيا وانفتاح أبوابها على الإنسان قد يصير سببا لانقباض القلب عن الدنيا وذلك في حق من أراد به الخير ، وقد يصير سببا لاستغراق الإنسان فيها وتهالكه عليها وانقطاعه بسببها عن سبيل الله ، فلما اختلف الأمر على الوجه الذي ذكرناه قال : { ويتوب الله على من يشاء } .

ثم قال : { والله عليم } أي بكل ما يعمل ويفعل في ملكه وملكوته { حكيم } مصيب في أحكامه وأفعاله .