مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٖ مِّنۡهُمۡ فَٱسۡتَـٔۡذَنُوكَ لِلۡخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخۡرُجُواْ مَعِيَ أَبَدٗا وَلَن تُقَٰتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّاۖ إِنَّكُمۡ رَضِيتُم بِٱلۡقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٖ فَٱقۡعُدُواْ مَعَ ٱلۡخَٰلِفِينَ} (83)

قوله تعالى : { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين }

واعلم أنه تعالى لما بين مخازي المنافقين وسوء طريقتهم بين بعد ما عرف به الرسول أن الصلاح في أن لا يستصحبهم في غزواته ، لأن خروجهم معه يوجب أنواعا من الفساد . فقال : { فإن رجعك الله إلى طآئفة منهم } أي من المنافقين { فقل لن تخرجوا معي أبدا } قوله : { فإن رجعك الله } يريد إن ردك الله إلى المدينة ، ومعنى الرجع مصير الشيء إلى المكان الذي كان فيه ، يقال رجعته رجعا كقولك رددته ردا . وقوله : { إلى طائفة منهم } إنما خصص لأن جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين ، بل كان بعضهم مخلصين معذورين . وقوله : { فاستأذنوك للخروج } أي للغزو معك { فقل لن تخرجوا معي أبدا } إلى غزوة ، وهذا يجري مجرى الذم واللعن لهم ، ومجري إظهار نفاقهم وفضائحهم ، وذلك لأن ترغيب المسلمين في الجهاد أمر معلوم بالضرورة من دين محمد عليه السلام ، ثم إن هؤلاء إذا منعوا من الخروج إلى الغزو بعد إقدامهم على الاستئذان ، كان ذلك تصريحا بكونهم خارجين عن الإسلام موصوفين بالمكر والخداع ، لأنه عليه السلام إنما منعهم من الخروج حذرا من مكرهم وكيدهم وخداعهم ، فصار هذا المعنى من هذا الوجه جاريا مجرى اللعن والطرد ، ونظيره قوله تعالى : { سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها } إلى قوله : { قل لن تتبعونا } ثم إنه تعالى علل ذلك المنع بقوله : { إنكم رضيتم بالقعود أول مرة } والمراد منه القعود عن غزوة تبوك ، يعني أن الحاجة في المرة الأولى إلى موافقتكم كانت أشد ، وبعد ذلك زالت تلك الحاجة ، فلما تخلفتم عند مسيس الحاجة إلى حضوركم ، فعند ذلك لا نقبلكم ، ولا نلتفت إليكم ، وفي اللفظ بحث ذكره صاحب «الكشاف » ، وهو أن قوله : { مرة } في { أول مرة } وضعت موضع المرات ، ثم أضيف لفظ الأول إليها ، وهو دال على واحدة من المرات ، فكان الأولى أن يقال أولى مرة .

وأجاب : عنه بأن أكثر اللغتين أن يقال : هند أكبر النساء ، ولا يقال هند كبرى النساء .

ثم قال تعالى : { فاقعدوا مع الخالفين } ذكروا في تفسير الخالف أقوالا : الأول : قال الأخفش وأبو عبيدة : الخالفون جمع . واحدهم خالف ، وهو من يخلف الرجل في قومه ، ومعناه مع الخالفين من الرجال الذين يخلفون في البيت ، فلا يبرحون ، والثاني : أن الخالفين مفسر بالمخالفين . قال الفراء يقال عبد خالف وصاحب خالف إذا كان مخالفا . وقال الأخفش : فلان خالفة أهل بيته إذا كان مخالفا لهم . وقال الليث هذا الرجل خالفة ، أي مخالف كثير الخلاف ، وقوم خالفون ، فإذا جمعت قلت الخالفون .

والقول الثالث : الخالف هو الفاسد . قال الأصمعي : يقال : خلف عن كل خير يخلف خلوفا إذا فسد ، وخلف اللبن وخلف النبيذ إذا فسد .

وإذا عرفت هذه الوجوه الثلاثة : فلا شك أن اللفظ يصلح حمله على كل واحد منها ، لأن أولئك المنافقين كانوا موصوفين بجميع هذه الصفات .

واعلم أن هذه الآية تدل على أن الرجل إذا ظهر له من بعض متعلقيه مكر وخداع وكيد ورآه مشددا فيه مبالغا في تقرير موجباته ، فإنه يجب عليه أن يقطع العلقة بينه وبينه ، وأن يحترز عن مصاحبته .