وتسمى المقشقشة كما أخرجه ابن أبي حاتم على زرارة بن او في وهو من قشقش المريض اذا صح وبرأ أي المبرثة من الشرك والنفاق وتسمى أيضا كما في جمال سورة العبادة وكذا تسمى سورة الاخلاص وهي عند أبي عباس والجمهور مكية وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير أنها مدنية وحكاه في البحر عن قتادة على خلاف ما في مجمع البيان من انه قائل بمكيتها وأياما كان قول الدواني أنها مكية بالاتفاق ليس في محله وآيها ست بلا خلاف وفيها اعلان ما فهم مما قللها من الأمر باخلاص العبادة له عز وجل ويكفي ذلك في المناسبة بينهما وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لجبلة بن حارثة وهو أخو زيد بن حارثة وقد قال له عليه الصلاة والسلام علمني شيئا أقوله عند منامي نحو ذلك كما في حديث أخرجه الامام أحمد والطبراني في الاوسط وأمر صلى الله تعالى عليه وسلم أنسا بأن يقرأها عند منامه أيضا معللا لذلك بما ذكر كما أخرجه البيهقي في الشعب وأمر عليه الصلاة والسلام خبابا بذلك أيضا كما في حديث أخرجه البزار وابن مردويه وأخرج أبو يعلى والطبراني عن أبن عباس مرفوعا الا أدلكم على كلمة تنجيكم من الاشراك بالله تعالى تقرؤون ( قل يأيها الكافرون ) عند منامكم وروى الديلمي عن عبد اله بن جراد قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المنافق لا يصلي الضحى ولا يقرأ قل يا أيها الكافرون ويسن قراءتها أيضا مع سورة ( قل هو الله أحد ) في ركعتي سنة الفجر التي هي عند الاكثرين أفضل السنن الرواتب وكذا في الركعتين بعد المغرب وهي حجة على من قال منن الائمة انه لا يسن في سنة الفجر ضم سورة الى الفاتحة وجاء في حديث أخرجه الطبراني في الاوسط عن ابن عمر مرفوعا وفي آخر أخرجه الصغير عن سعد بن أبي وقاص كذلك انها تعدل ربع القرآن ووجه ذلك الامام بان القرآن مشتمل على الامر بالمأمورات والنهي عن المحرمات وكل منهما أما ان يتعلق بالقلب أو الجوارح فيكون أربعة أقسام وهذه السورة مشتملة على النهى عن المحرمات المتعلقة بالقلب فتكون كربع القرآن وتعقب بأن العبادة أعم من القلبية والقالبية والامر والنهي المتعلقان بها لا يختصان بالمأمورات والمنهيات القلبية والقلبية وأن مقاصد القرآن العظيم لا تنحصر في الأمر والنهي المذكورين بل هو مشتمل على مقاصد اخرى كأحوال المبدأ والمعاد ومن هنا قيل لعل الاقرب ان يقال ان مقاصد القرآن التوحيد والأحكام الشرعية وأحوال المعاد والتوحيد عبارة عن تخصيص الله تعالى بالعبادة وهو الذي دعا اليه الانبياء عيهم السلام اولا بالذات والتخصيص انما يحصل بنفي عبادة غيره تعالى وعبادة الله عز وجل اذ التخصيص له جزآن النفي عن الغير والاثبات للمخصص به فصارت المقاصد بهذا الاعتبار اربعة وهذه السورة تشتمل على ترك عبادة غيره سبحانه والتبري منها فصارت بهذا الاعتبار ربع القرآن ولكونها ليس فيها التصريح بالأمر بعبادة الله عز وجل كما أن فيها التصريح بترك عبادة غيره تعالى لم تكن كنصف القرآن وقيل ان مقاصد القرآن صفاته تعالى والنبوات والأحكام والمواعظ وهي مشتملة على أساس الاول وهو التوحيد ولذا عدلت ربعه وذكر بعض أجلة أحبابي المعاصرين اوجها في ذلك احسنها فيما ارى ان الدين الذي تضمنه القرآن اربعة أنواع عبادات ومعاملات وجنايات ومناكحات والسورة متضمنة من النوع الاول فكانت ربعا وتعقب بأنه أراد فكانت ربعا من القرآن فلا نسلم صحة تفريعه على كون الدين الذي تضمنه القرآن أربعة أنواع وان اراد فكانت ربعا من الدين فليس الكلام فيه انما الكلام في كونها تعدل ربعا من القرآن اذ هو الذي تشعر به الاخبار على اختلاف ألفاظها والتلازم بينهما غير مسلم على ان المقابلة الحقيقية بين ما ذكر من الانواع غير تامة وأجيب باحتمال انه اراد أن مقاصد القرآن هي تلك الاربعة التي هي الدين ولا يبعد ان يكون ما تضمن واحدا منها عدل القرآن كله مقاصده أحوال المبدأ والمعاد فبدخول ذلك في العبادات بنوع عناية وعدم التقابل الحقيقي لا يضر اذ يكفي في الغرض عد أهل العرف تلك الامور متقابلة ولو بالاعتبار فتأمل جميع ذلك والله تعالى الهادي لا قوم المسالك .
{ قُلْ يا أهل أَيُّهَا الكافرون } قال أجلة المفسرين المراد بهم كفرة من قريش مخصوصون قد علم الله تعالى أنهم لا يتأتى منهم الإيمان أبداً أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف عن سعيد بن ميناء مولى أبي البختري قال لقي الوليد بن المغيرة والعاصي بن واثل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد هلم فلتعبد ما نعبد ونعبد ما تعبد وتشترك نحن وأنت في أمرنا كله فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظاً وإن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظاً فأنزل الله تعالى : { قُلْ يا أهل أَيُّهَا الكافرون } حتى انقضت السورة وفي رواية أن رهطاً من عتاة قريش قالوا له صلى الله عليه وسلم هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فقال عليه الصلاة والسلام معاذ الله تعالى أن أشرك بالله سبحانه غيره فقالوا فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك فنزلت فعدا صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام عليه الصلاة والسلام على رؤوسهم فقرأها عليهم فأيسوا ولعل نداءهم بيا أيها للمبالغة في طلب إقبالهم لئلا يفوتهم شيء مما يلقى إليهم وبالكافرون دون الذين كفروا لأن الكفر كان دينهم القديم ولم يتجدد لهم أو لأن الخطاب مع الذين يعلم استمرارهم على الكفر فهو كاللازم لهم أو للمسارعة إلى ذكر ما يقال لهم لشدة الاعتناء به وبه دون المشركين مع أنهم عبدة أصنام والأكثر التعبير عنهم بذلك لأن ما ذكر أنكى لهم فيكون أبلغ في قطع رجائهم الفارغ وقيل هذا للإشارة إلى أن الكفر كله ملة واحدة ولا يبعد أن يكون في هذه الإشارة إنكاءً لهم أيضاً وفي ندائه عليه الصلاة والسلام بذلك في ناديهم ومكان بسطة أيديهم دليل على عدم اكتراثه عليه الصلاة والسلام بهم إذ المعنى قل يا محمد والمراد حقيقة الأمر خلافاً لصاحب التأويلات للكافرين يا أيها الكافرون .
قل ياأيها الكافرون 1 لا أعبد ما تعبدون 2 ولا أنتم عابدون ما أعبد 3 ولا أنا عابد ما عبدتم 4 ولا أنتم عابدون ما أعبد 5 لكم دينكم ولي دين } .
هذه السورة تدعو إلى البراءة من الشرك ، ومما يقوله المشركون أو يدعون إليه من كفر وباطل . وهي آمرة بتوحيد الله ، وإخلاص العبادة والطاعة له وحده ، دون أحد من خلقه .
وذكر في سبب نزول هذه السورة أن نفرا من المشركين فيهم الوليد بن المغيرة والعاص ابن وائل وأمية بن خلف ، لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ، هلمّ فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله . فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد شاركناك فيه ، وأخذنا بحظنا منه . وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما بيدك كنت قد شركتنا في أمرنا ، وأخذت بحظك منه ، فأنزل الله { قل ياأيها الكافرون } . وقيل : إن المشركين الجهلة دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة ، ويعبدون معبوده سنة ، فأنزل الله هذه السورة ، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية{[4869]} .
قوله : { قل ياأيها الكافرون } الخطاب من الله لرسوله في أشخاص بأعيانهم من المشركين ، قد علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا . أي إن المخاطبين هنا كفرة مخصوصون ، علم الله منهم الكفر ، وأنهم لا يؤمنون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
السورة نزلت في رهط من قريش منهم : الحارث بن قيس السهمي ، والعاص بن وائل ، والوليد بن المغيرة ، والأسود بن يغوث ، والأسود بن المطلب بن أسد ، وأمية بن خلف ، قالوا : يا محمد هلم فاتبع ديننا ، ونتبع دينك ، ونشركك في أمرنا كله ، تعبد آلهتنا سنة ، ونعبد إلهك سنة ، فإن كان الذي جئت به خيراً كنا قد شركناك فيه ، وأخذنا حظنا منه ، وإن كان الذي بأيدينا خيراً كنت قد شركتنا في أمرنا ، وأخذت بحظك منه ، فقال : معاذ الله أن أشرك به غيره ، قالوا : فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك... فأنزل الله عز وجل : { قل يا أيها الكافرون } إلى آخر السورة ، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش ، فقام على رؤوسهم ثم قرأها عليهم حتى فرغ من السورة ، فأيسوا منه عند ذلك وآذوه وأصحابه ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ويقال لها ولسورة الإخلاص : المقشقشتان ، أي المبرئتان من النفاق ....
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
اعلم أن هذه السورة تسمى سورة المنابذة وسورة الإخلاص والمقشقشة ، وروي أن من قرأها فكأنما قرأ ربع القرآن ، والوجه فيه أن القرآن مشتمل على الأمر بالمأمورات والنهي عن المحرمات ، وكل واحد منهما ينقسم إلى ما يتعلق بالقلوب وإلى ما يتعلق بالجوارح وهذه السورة مشتملة على النهي عن المحرمات المتعلقة بأفعال القلوب فتكون ربعا للقرآن والله أعلم .
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثبت في صحيح مسلم ، عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهذه السورة ، وب " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " في ركعتي الطواف.
وفي صحيح مسلم ، من حديث أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في ركعتي الفجر .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مجاهد ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب ، بضعا وعشرين مرة - أو : بضع عشرة مرة - " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " و " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " .
هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون ، وهي آمرة بالإخلاص فيه ، فقوله : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } شمل كل كافر على وجه الأرض ، ولكن المواجهين بهذا الخطاب هم كفارُ قريش .
وقيل : إنهم من جهلهم دَعَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة ، ويعبدون معبوده سنة ، فأنزل الله هذه السورة ، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية ، فقال : { لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ }
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لم يكن العرب يجحدون الله ولكن كانوا لا يعرفونه بحقيقته التي وصف بها نفسه . أحد . صمد . فكانوا يشركون به ولا يقدرونه حق قدره ، ولا يعبدونه حق عبادته . كانوا يشركون به هذه الأصنام التي يرمزون بها إلى أسلافهم من الصالحين أو العظماء . أو يرمزون بها إلى الملائكة . . وكانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله ، وأن بينه - سبحانه - وبين الجنة نسبا ، أو ينسون هذا الرمز ويعبدون هذه الآلهة ، وفي هذه الحالة أو تلك كانوا يتخذونها لتقربهم من الله كما حكى عنهم القرآن الكريم في سورة الزمر قولهم : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) . .
ولقد حكى القرآن عنهم أنهم كانوا يعترفون بخلق الله للسماوات والأرض ، وتسخيره للشمس والقمر ، وإنزاله الماء من السماء كالذي جاء في سورة العنكبوت : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله ) . . ( ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله ) . . وفي إيمانهم كانوا يقولون : والله . وتالله . وفي دعائهم كانوا يقولون : اللهم . . الخ .
ولكنهم مع إيمانهم بالله كان هذا الشرك يفسد عليهم تصورهم كما كان يفسد عليهم تقاليدهم وشعائرهم ، فيجعلون للآلهة المدعاة نصيبا في زرعهم وأنعامهم ونصيبا في أولادهم . حتى ليقتضي هذا النصيب أحيانا التضحية بأبنائهم . وفي هذا يقول القرآن الكريم عنهم في سورة الأنعام : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا . فقالوا هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا . فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله . وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم . ساء ما يحكمون ! وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم ، وليلبسوا عليهم دينهم ، ولو شاء الله ما فعلوه ، فذرهم وما يفترون . وقالوا : هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها ، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه . سيجزيهم بما كانوا يفترون ، وقالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ، ومحرم على أزواجنا ، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء . ( سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم . قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم . وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله . قد ضلوا وما كانوا مهتدين ) .
وكانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم ، وأنهم أهدى من أهل الكتاب ، الذين كانوا يعيشون معهم في الجزيرة العربية ، لأن اليهود كانوا يقولون : عزير ابن الله . والنصارى كانوا يقولون : عيسى ابن الله . بينما هم كانوا يعبدون الملائكة والجن على اعتبار قرابتهم من الله - بزعمهم - فكانوا يعدون أنفسهم أهدى . لأن نسبة الملائكة إلى الله ونسبة الجن كذلك أقرب من نسبة عزير وعيسى . . وكله شرك . وليس في الشرك خيار . ولكنهم هم كانوا يحسبون أنفسهم أهدى وأقوم طريقا !
فلما جاءهم محمد [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : إن دينه هو دين إبراهيم - عليه السلام - قالوا : نحن على دين إبراهيم فما حاجتنا إذن إلى ترك ما نحن عليه واتباع محمد ? ! وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] خطة وسطا بينهم وبينه ؛ وعرضوا عليه أن يسجد لآلهتهم مقابل أن يسجدوا هم لإلهه ! وأن يسكت عن عيب آلهتهم وعبادتهم ، وله فيهم وعليهم ما يشترط !
ولعل اختلاط تصوراتهم ، واعترافهم بالله مع عبادة آلهة أخرى معه . . لعل هذا كان يشعرهم أن المسافة بينهم وبين محمد قريبة ، يمكن التفاهم عليها ، بقسمة البلد بلدين ، والالتقاء في منتصف الطريق ، مع بعض الترضيات الشخصية !
ولحسم هذه الشبهة ، وقطع الطريق على المحاولة ، والمفاصلة الحاسمة بين عبادة وعبادة ، ومنهج ومنهج ، وتصور وتصور ، وطريق وطريق . . نزلت هذه السورة . بهذا الجزم . وبهذا التوكيد . وبهذا التكرار . لتنهي كل قول ، وتقطع كل مساومة وتفرق نهائيا بين التوحيد والشرك ، وتقيم المعالم واضحة ، لا تقبل المساومة والجدل في قليل ولا كثير :
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عنونت هذه السورة في المصاحف التي بأيدينا قديمها وحديثها وفي معظم التفاسير سورة الكافرون بإضافة سورة إلى (الكافرون) وثبوت واو الرفع في الكافرون على حكاية لفظ القرآن الواقع في أولها .
ووقع في الكشاف وتفسير ابن عطية وحرز الأماني سورة الكافرين بياء الخفض في لفظ الكافرين بإضافة سورة إليه أن المراد سورة ذكر الكافرين ، أو نداء الكافرين ، وعنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه سورة { قل يا أيها الكافرون } .
قال في الكشاف والإتقان : وتسمى هي وسورة قل هو الله أحد بالمقشقشتين لأنهما تشقشقان من الشرك أي تبرئان منه يقال : قشقش ، إذ أزال المرض .
وتسمى أيضا سورة الإخلاص فيكون هذان الاسمان مشتركين بينها وبين سورة قل هو الله أحد .
وقد ذكر في سورة براءة أن سورة براءة تسمى المقشقشة لأنها تقشقش ، أي تبرئ من النفاق فيكون هذا مشتركا بين السور الثلاث فيحتاج إلى التمييز .
وقال سعد الله المعروف بسعدي عن جمال القراء أنها تسمى سورة العبادة وفي بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي تسمى سورة الدين .
وهي مكية بالاتفاق في حكاية ابن عطية وابن كثير ، وروي عن ابن الزبير أنها مدنية ...
وسبب نزولها فيما حكاه الواحدي في أسباب النزول وابن إسحاق في السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف في الكعبة فاعترضه الأسود بن المطلب بن أسد ، والوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل . وكانوا ذوي أسنان في قومهم فقالوا : يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد سنة وتعبد ما نعبد سنة فنشترك نحن وأنت في الأمر ، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظه منا وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه فقال : معاذ الله أن أشرك به غيره ، فأنزل الله فيهم { قل يا أيها الكافرون } السورة كلها فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقرأها عليهم فيئسوا منه عند ذلك وإنما عرضوا عليه ذلك لأنهم رأوا حرصه على أن يؤمنوا فطمعوا أن يستزلوه إلى الاعتراف بإلهية أصنامهم .
وعن ابن عباس : فيئسوا منه وآذوه وآذوا أصحابه .
وبهذا يعلم الغرض الذي اشتملت عليه وأنه تأييسهم من أن يوافقهم في شيء مما هم عليه من الكفر بالقول الفصل المؤكد في الحال والاستقبال وأن دين الإسلام لا يخالط شيئا من دين الشرك .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان المشركون من قومه -فيما ذُكر- عرضوا عليه أن يعبدوا الله سنة ، على أن يعبد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم آلهتهم سنة ، فأنزل الله مُعَرّفه جوابهم في ذلك : قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوك عبادة آلهتهم سنة ، على أن يعبدوا إلهك سنة "يا أيّها الكافِرُونَ" بالله "لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ" من الآلهة والأوثان الآن ، "وَلا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ" الآن ، "وَلا أنا عابِدٌ" فيما أستقبل "ما عَبَدْتُمْ" فيما مضى ، "وَلا أنْتُمْ عابِدُونَ" فيما تستقبلون أبدا "ما أعْبُدُ" أنا الآن ، وفيما أستقبل . وإنما قيل ذلك كذلك ؛ لأن الخطاب من الله كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين ، قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا ، وسبق لهم ذلك في السابق من علمه ، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُؤَيّسَهم من الذي طمعوا فيه ، وحدّثوا به أنفسهم ، وأن ذلك غير كائن منه ولا منهم ، في وقت من الأوقات ، وآيسَ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من الطمع في إيمانهم ، ومن أن يفلحوا أبدا ، فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا ، إلى أن قُتِل بعضُهم يوم بدر بالسيف ، وهلك بعض قبل ذلك كافرا ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ذكر أنها نزلت في منابذة المتمردين المعاندين الذين لا يؤمنون أبدا ، ولا يرجعون عما هم عليه من عبادة الأوثان إلى التوحيد والإسلام ؛ لأنه لا كل كافر يكون على وصف أنه لا يعبد الله تعالى في وقت من الأوقات ؛ إذ قد يجوز أن يكون في وقت كافرا ثم يسلم في وقت آخر . فدل ما ذكرنا أنها نزلت في المتمردين المعاندين الذين علم الله أنهم يثبتون على الكفر ، ولا يؤمنون أبدا ، وكان كما أخبر . وفيه دلالة إثبات الرسالة ؛ إذ أخبر أنهم لا يؤمنون ، فلم يؤمنوا وماتوا على الكفر . ...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{ قل } دليل على أنه مأمور بذلك من عند الله ، وخطابه لهم بيا أيها الكافرون في ناديهم ، ومكان بسطة أيديهم مع ما في الوصف من الإرذال بهم دليل على أنه محروس من عند الله تعالى لا يبالي بهم . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ قل } ولما كان شائنه أعرق الخلق في الضلال والبعد من الخير ، قال منادياً له بأداة البعد ، وإن كان حاضراً ، معبراً بالوصف المؤذن بالرسوخ : { يا أيها الكافرون } أي الذين قد حكم بثباتهم على الكفر ، فلا انفكاك لهم عنه ، فستروا ما تدل عليه عقولهم من الاعتقاد الحق لو جردوها من أدناس الحظ ، وهم كفرة مخصوصون ، وهم من حكم بموته على الكفر بما طابقه من الواقع ، وبما دل عليه التعبير بالوصف دون الفعل ، واستغرقت اللام كل من كان على هذا الوصف في كل مكان وكل زمان ، وإنما عبر بالجمع الذي هو أصل في القلة ، وقد يستعار للكثرة إشارة إلى البشارة بقلة المطبوع على قلبه من العرب المخاطبين بهذا في حياته صلى الله عليه وسلم ، وإشارة إلى حقارة الكافر وذلته وإن كان كثيراً ، كما يشير إليه جعل كل كلمة منها بحرف من الكوثر كما سيأتي ، وفي مناداتهم بهذا الوصف الذي يسترذلونه في بلدتهم ، ومحل عزهم وحميتهم ، إيذان بأنه محروس منهم علماً من أعلام النبوة ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
نفي بعد نفي . وجزم بعد جزم . وتوكيد بعد توكيد . بكل أساليب النفي والجزم والتوكيد . . ( قل ) . . فهو الأمر الإلهي الحاسم الموحي بأن أمر هذه العقيدة أمر الله وحده . ليس لمحمد فيه شيء . إنما هو الله الآمر الذي لا مرد لأمره ، الحاكم الذي لا راد لحكمه . قل يا أيها الكافرون . . ناداهم بحقيقتهم ، ووصفهم بصفتهم . . إنهم ليسوا على دين ، وليسوا بمؤمنين وإنما هم كافرون . فلا التقاء إذن بينك وبينهم في طريق . . وهكذا يوحي مطلع السورة وافتتاح الخطاب ، بحقيقة الانفصال الذي لا يرجى معه اتصال
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتاحها ب { قلْ } للاهتمام بما بعد القول بأنه كلام يراد إبلاغه إلى الناس بوجه خاص منصوص فيه على أنه مرسل بقول يبلغه وإلا فإن القرآن كله مأمور بإبلاغه ، ولهذه الآية نظائر في القرآن مفتتحة بالأمر بالقول في غير جوابٍ عن سؤال منها : { قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء للَّه } في سورة الجمعة ( 6 ) . والسور المفتتحة بالأمر بالقول خمس سور : { قل أوحي } [ الجن : 1 ] ، وسورة الكافرون ، وسورة الإخلاص ، والمعوّذتان ، فالثلاث الأول لقول يبلِّغه ، والمعوّذتان لقول يقوله لتعويذ نفسه .
والنداء موجه إلى الأربعة الذين قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد ، كما في خبر سبب النزول وذلك الذي يقتضيه قوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } كما سيأتي .
وابتدئ خطابهم بالنداء لإِبلاغهم ، لأن النداء يستدعي إقبال أذهانهم على ما سيلقى عليهم .
ونُودوا بوصف الكافرين تحقيراً لهم وتأييداً لوجه التبرؤ منهم وإيذاناً بأنه لا يخشاهم إذا ناداهم بما يَكرهون مما يثير غضبهم لأن الله كفاه إياهم وعصمه من أذاهم . قال القرطبي : قال أبو بكر بن الأنباري : إن المعنى : قل للذين كفروا يا أيها الكافرون أن يعتمدهم في ناديهم فيقول لهم : يا أيها الكافرون ، وهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر .
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{ قُلْ يا أيّهَا الْكَافِرُونَ } بالله أو بوحدانيته ، من خلال المنهج الذي تسيرون عليه ، والالتزام الذي تلتزمونه في حياتكم على خطِّ العبادة في العقل والروح والشعور والحركة والموقف ، قل لهم ، إذا دعوك إلى عبادة آلهتهم التي هي أحجارٌ لا تضرّ ولا تنفع ...قل لهم ، إذا حاولوا أن يخدعوك بالتلويح لك بأنهم سيعبدون الله في مقابل عبادتك للصنم ، قل لهم كلمة الرفض الحاسم الذي لا يوافق على التسويات في خط العقيدة ....