وقوله تعالى : { لَكُمْ دِينَكُمْ } هو عند الأكثرين تقرير لقوله تعالى : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } [ الكافرون : 2 ] وقوله تعالى : { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } كما أن قوله تعالى : { وَلِىَ دِينِ } عندهم تقرير لقوله تعالى : { وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ } [ الكافرون : 3 ] والمعنى أن دينكم وهو الإشراك مقصور على الحصول لكم لا يتجاوزه إلى الحصول كما تطمعون فيه فلا تعلقوا به أمانيكم الفارغة فإن ذلك من المحالات وأن ديني الذي هو التوحيد مقصور على الحصول لي لا يتجاوزه إلى الحصول لكم أيضاً لأن الله تعالى قد ختم على قلوبكم لسوء استعدادكم أو لأنكم علقتموه بالمحال الذي هو عبادتي لآلهتكم أو استلامي لها أو لأن ما وعدتموه عين الإشراك وحيث إن مقصودهم شركة الفريقين في كلتا العبادتين كان القصر المستفاد من تقديم المسند قصر إفراد حتماً وجوز أن يكون هذا تقريراً لقوله تعالى : { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } والآية على ما ذكر محكمة غير منسوخة كما لا يخفي أو المراد التاركة على معنى أني نبي مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة فإذا لم تقبلوا مني ولم تتبعوني فدعوني كفافاً ولا تدعوني إلى الشرك فهي على هذا كما قال غير واحد منسوخة بآية السيف وفسر الدين بالحساب أي لكم حسابكم ولي حسابي لا يرجع إلى كل منا من عمل صاحبه أثر وبالجزاء أي لكم جزاؤكم ولي جزائي قيل والكلام على الوجهين استئناف بياني كأنه قيل فما يكون إذا بقينا على عبادة آلهتنا وإذا بقيت على عبادة إلهك فقيل لكم الخ والمراد يكون لهم الشر ويكون له عليه الصلاة والسلام الخير لكن أتى باللام في لكم للمشاكلة وعليه لا نسخ أيضاً ويحتمل أن يكون المراد غير ذلك مما تكون عليه الآية منسوخة ولعله لا يخفي وقد يفسر الدين بالحال كما هو أحد معانيه حسبما ذكره القالي في أماليه وغيره أي لكم حالكم اللائق بكم الذي يقتضيه سوء استعدادكم ولي حالي اللائق بي الذي يقتضيه حسن استعدادي والجملة عليه كالتعليل لما تضمنه الكلام السابق فلا نسخ والأولى أن تفسر بما لا تكون عليه منسوخة لأن النسخ خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا عند الضرورة وللإمام الرازي أوجه في تفسيرها لا يخلو بعضها عن نظر وذكر عليه الرحمة أنه جرت العادة بأن الناس يتمثلون بهذه الآية عند المتاركة وذلك لا يجوز لأن القرآن ما أنزل ليتمثل به بل ليهتدي به وفيه ميل إلى سد باب الاقتباس والصحيح جوازه فقد وقع في كلامه عليه الصلاة والسلام وكلام كثير من الصحابة والأئمة والتابعين وللجلال السيوطي رسالة وافية كافية في إزالة الالتباس عن وجه جواز الاقتباس عن وجه جوازاً الاقتباس وما ذكر من الدليل فأظهر من أن ينبه على ضعفه وقرأ سلامخ ويعقوب ديني بياء وصلاً ووقفاً وحذفها القراء السبعة والله تعالى أعلم .
قوله : { لكم دينكم ولي دين } أي لكم شرككم وضلالكم ولي توحيدي وإخلاصي وهداي . أو لكم دينكم فلستم بتاركيه ؛ لأنه قد ختم على قلوبكم فلا تؤمنون أبدا . ولي أنا ديني ، دين التوحيد لا أتركه أبدا{[4870]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ لكم دينكم } الذي أنتم عليه { ولي دين } الذي أنا عليه ..
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } يقول تعالى ذكره : لكم دينكم فلا تتركونه أبدا ؛ لأنه قد خُتِمَ عليكم ، وقُضِي أن لا تنفكوا عنه ، وأنكم تموتون عليه ، ولي دينِ الذي أنا عليه ، لا أتركه أبدا ، لأنه قد مَضى في سابق علم الله أني لا أنتقل عنه إلى غيره .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
.........................................................ز
والثاني : على المنابذة والإياس : لكم ما اخترتم من الدين ، ولي ما اخترت ، لا يعود واحد منا إلى دين الآخر . وكان قبل ذلك يطمع كل فريق عود الفريق الآخر إلى دينهم الذي هم عليه ....
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ } لكم شرككم ، ولي توحيدي . والمعنى : أني نبيّ مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة ، فإذا لم تقبلوا مني ولم تتبعوني ، فدعوني كفافاً ولا تدعوني إلى الشرك . ...
فإن قيل : فهل يقال : إنه أذن لهم في الكفر قلنا : كلا فإنه عليه السلام ما بعث إلا للمنع من الكفر فكيف يأذن فيه ، ولكن المقصود منه أحد أمور؛
( أحدها ) : أن المقصود منه التهديد ، كقوله { اعملوا ما شئتم }.
( وثانيها ) كأنه يقول : إني نبي مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة ، فإذا لم تقبلوا مني ولم تتبعوني فاتركوني ولا تدعوني إلى الشرك.
( وثالثها ) { لكم دينكم } فكونوا عليه إن كان الهلاك خيرا لكم { ولي ديني } لأني لا أرفضه .
( القول الثاني ) : في تفسير الآية أن الدين هو الحساب أي لكم حسابكم ولي حسابي ، ولا يرجع إلى كل واحد منا من عمل صاحبه أثر البتة .
( القول الثالث ) : أن يكون على تقدير حذف المضاف أي لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني وحسبهم جزاء دينهم وبالا وعقابا كما حسبك جزاء دينك تعظيما وثوابا
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ لكم } أي خاصة { دينكم } أي الذي تعلمون أنه لا أصل له يثبت عليه ، ولا دليل يرجع بوجه إليه ، لا أشارككم فيه بوجه ، ولا ترجعون عنه بوجه ؛ بل تموتون عليه موتاً لبعضكم حتف الأنف ، والآخرين قتلاً على يدي بالسيف . { ولي } أي خاصة { دين }...أنه كله دليل وفرقان ونور وحجة وبرهان ، لا تشاركونني فيه بوجه ، ولا تقدرون على ردّي عنه أصلاً ، فكانت هذه علماً من أعلام النبوة من حيث إنه مات منهم ناس كثير بعد ذلك على الكفر ، وأتم الله له هذا الدين ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم إجمال لحقيقة الافتراق الذي لا التقاء فيه ، والاختلاف الذي لا تشابه فيه ، والانفصال الذي لا اتصال فيه ، والتمييز الذي لا اختلاط فيه :
( لكم دينكم ولي دين ) . . أنا هنا وأنتم هناك ، ولا معبر ولا جسر ولا طريق ! ! !
مفاصلة كاملة شاملة ، وتميز واضح دقيق . .
ولقد كانت هذه المفاصلة ضرورية لإيضاح معالم الاختلاف الجوهري الكامل ، الذي يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق . الاختلاف في جوهر الاعتقاد ، وأصل التصور ، وحقيقة المنهج ، وطبيعة الطريق .
إن التوحيد منهج ، والشرك منهج آخر . . ولا يلتقيان . . التوحيد منهج يتجه بالإنسان - مع الوجود كله - إلى الله وحده لا شريك له . ويحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان ، عقيدته وشريعته ، وقيمه وموازينه ، وآدابه وأخلاقه ، وتصوراته كلها عن الحياة وعن الوجود . هذه الجهة التي يتلقى المؤمن عنها هي الله ، الله وحده بلا شريك . ومن ثم تقوم الحياة كلها على هذا الأساس . غير متلبسة بالشرك في أية صورة من صوره الظاهرة والخفية . . وهي تسير . .
وهذه المفاصلة بهذا الوضوح ضرورية للداعية . وضرورية للمدعوين . .
إن تصورات الجاهلية تتلبس بتصورات الإيمان ، وبخاصة في الجماعات التي عرفت العقيدة من قبل ثم انحرفت عنها . وهذه الجماعات هي أعصى الجماعات على الإيمان في صورته المجردة من الغبش والالتواء والانحراف . أعصى من الجماعات التي لا تعرف العقيدة أصلا . ذلك أنها تظن بنفسها الهدى في الوقت الذي تتعقد انحرافاتها وتتلوى ! واختلاط عقائدها وأعمالها وخلط الصالح بالفاسد فيها ، قد يغري الداعية نفسه بالأمل في اجتذابها إذا أقر الجانب الصالح وحاول تعديل الجانب الفاسد . . وهذا الإغراء في منتهى الخطورة !
إن الجاهلية جاهلية ، والإسلام إسلام . والفارق بينهما بعيد . والسبيل هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته . هو الانسلاخ من الجاهلية بكل ما فيها والهجرة إلى الإسلام بكل ما فيه .
وأول خطوة في الطريق هي تميز الداعية وشعوره بالانعزال التام عن الجاهلية : تصورا ومنهجا وعملا . الانعزال الذي لا يسمح بالالتقاء في منتصف الطريق . والانفصال الذي يستحيل معه التعاون إلا إذا انتقل أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام .
لا ترقيع . ولا أنصاف حلول . ولا التقاء في منتصف الطريق . . مهما تزيت الجاهلية بزي الإسلام ، أو ادعت هذا العنوان !
وتميز هذه الصورة في شعور الداعية هو حجر الأساس . شعوره بأنه شيء آخر غير هؤلاء . لهم دينهم وله دينه ، لهم طريقهم وله طريقه . لا يملك أن يسايرهم خطوة واحدة في طريقهم . ووظيفته أن يسيرهم في طريقه هو ، بلا مداهنة ولا نزول عن قليل من دينه أو كثير !
وإلا فهي البراءة الكاملة ، والمفاصلة التامة ، والحسم الصريح . . ( لكم دينكم ولي دين ) . .
وما أحوج الداعين إلى الإسلام اليوم إلى هذه البراءة وهذه المفاصلة وهذا الحسم . . ما أحوجهم إلى الشعور بأنهم ينشئون الإسلام من جديد في بيئة جاهلية منحرفة ، وفي أناس سبق لهم أن عرفوا العقيدة ، ثم طال عليهم الأمد ( فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ) . . وأنه ليس هناك أنصاف حلول ، ولا التقاء في منتصف الطريق ،
ولا إصلاح عيوب ، ولا ترقيع مناهج . . إنما هي الدعوة إلى الإسلام كالدعوة إليه أول ما كان ، الدعوة بين الجاهلية . والتميز الكامل عن الجاهلية . . ( لكم دينكم ولي دين ) . . وهذا هو ديني : التوحيد الخالص الذي يتلقى تصوراته وقيمه ، وعقيدته وشريعته . . كلها من الله . . دون شريك . . كلها . . في كل نواحي الحياة والسلوك .
وبغير هذه المفاصلة . سيبقى الغبش وتبقى المداهنة ويبقى اللبس ويبقى الترقيع . . والدعوة إلى الإسلام لا تقوم على هذه الأسس المدخولة الواهنة الضعيفة . إنها لا تقوم إلا على الحسم والصراحة والشجاعة والوضوح . . .
وهذا هو طريق الدعوة الأول : ( لكم دينكم ولي دين ) . .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والدين : العقيدة والملة ، وهو معلومات وعقائد يعتقدها المرء فتجري أعماله على مقتضاها ، فلذلك سمي دِيناً لأن أصل معنى الدين المعاملة والجزاء ...