{ وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } أي اعبدوني أثبكم على ما روي عن ابن عباس . والضحاك . ومجاهد . وجماعة . وعن الثوري أنه قيل له : ادع الله تعالى فقال : إن ترك الذنوب هو الدعاء يعني أن الدعاء باللسان ترجمة عن طلب الباطن وأنه إنما يصح لصحة التوجه وترك المخالفة فمن ترك الذنوب فقد سأل الحق بلسان الاستعداد وهو الدعاء الذي يلزمه الإجابة ومن لا يتركها فليس بسائل وإن دعاه سبحانه ألف مرة ؛ وما ذكر مؤيد لتفسير الدعاء بالعبادة ومحقق له فإن ترك الذنوب من أجل العبادات وينطبق على ذلك كمال الانطباق قوله تعالى : { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين } أي صاغرين أذلاء .
وجوز أن يكون المعنى اسألوني أعطكم وهو المروى عن السدي فمعنى قوله تعالى : { يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى } يستكبرون عن دعائي لأن الدعاء نوع من العبادة ومن أفضل أنواعها ، بل روى ابن المنذر . والحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال : أفضل العبادة الدعاء وقرأ الآية ، والتوعد على الاستكبار عنه لأن ذلك عادة المترفين المسرفين وإنما المؤمن يتضرع إلى الله تعالى في كل تقلباته ، وفي إيقاع العبادة صلة الاستكبار ما يؤذن بأن الدعاء باب من أبواب الخضوع لأن العبادة خضوع ولأن المراد بالعبادة الدعاء والاستكبار إنما يكون عن شيء إذا أتى به لم يكن مستكبراً .
قال في «الكشف » : وهذا الوجه أظهر بحسب اللفظ وأنسب إلى السياق لأنه لما جعل المجادلة في آيات الله تعالى من الكبر جعل الدعاء وتسليم آياته من الخضوع لأن الداعي له تعالى الملتجيء إليه عز وجل لا يجادل في آياته بغير سلطان منه البتة ، والعطف في قوله تعالى : { وَقَالَ } من عطف مجموع قصة على مجموع أخرى لاستئوائهما في الغرض ، ولهذا لما تمم هذه القصة أعني قوله سبحانه : { وَقَالَ رَبُّكُمْ } إلى قوله عز وجل : { كُنْ فَيَكُونُ } [ غافر : 60-68 ] صرح بالغرض في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يجادلون فِى ءايات الله } [ غافر : 69 ] كما بني القصة أولاً على ذلك في قوله تبارك وتعالى : { إِنَّ الذين يجادلون فِى ءايات الله بِغَيْرِ سلطان } [ غافر : 56 ] ولو تؤمل في هذه السورة الكريمة حق التأمل وجد جل الكلام مبنياً على رد المجادلين في آيات الله المشتملة على التوحيد والبعث وتبيين وجه الرد في ذلك بفنون مختلفة ، ثم انظر إلى ما ختم به السورة كيف يطابق ما بدئت من قوله سبحانه : { فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ } [ غافر : 4 ] وكيف صرح آخراً بما رمز إليه أولاً لتقضي منه العجب فهذا وجه العطف انتهى .
وما ذكره من أظهرية هذا الوجه بحسب اللفظ ظاهر جداً لما في الأولى من ارتكاب خلاف الظاهر قبل الحاجة إليه في موضعين في الدعاء حيث تجوز به عن العبادة لتضمنها له أو لأنه عبادة خاصة أريد به المطلق ، وفي الاستجابة حيث جعلت الإثابة على العبادة لترتبها عليها استجابة مجازاً أو مشاكلة بخلاف الثاني فإن فيه ارتكاب خلاف الظاهر وهو التجوز في موضع واحد وهو { عَنْ عِبَادَتِى } ومع هذا هو بعد الحاجة فلم يكن كنزع الخف قبل الوصول إلى الماء بل قيل : لا حاجة إلى التجوز فيه لأن الإضافة مراد بها العهد هنا فتفيد ما تقدم ، لكن كونه أنسب بالسياق أيضاً مما لا يتم في نظري ، وأياً ما كان { فأستجب } جزم في جواب الأمر أي إن تدعوني أستجب لكم والاستجابة على الوجهين مشروطة بالمشيئة حسبما تقتضيه أصولنا ، وقد صرح بذلك في استجابة الدعاء قال سبحانه : { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء } [ الأنعام : 41 ] والاستكبار عن عبادة الله تعالى دعاء كانت أو غيره كفر يترتب عليه ما ذكر في الآية الكريمة .
وأما ترك ذلك لا عن استكبار فتفصيل الكلام فيه لا يخفى ، والمقامات في ترك الدعاء فقيل : متفاوتة فقد لا يحسن كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : «من لم يدع الله تعالى يغضب عليه » أخرجه أحمد . وابن أبي شيبة . والحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً ، وقد يحسن كما يدل عليه ما روي من ترك الخليل عليه السلام الدعاء يوم ألقي في النار وقوله علمه بحالي يغني عن سؤالي ، وربما يقال : ترك الدعاء اكتفاء بعلم الله عز وجل دعاء والله تعالى أعلم .
وقرأ ابن كثير . وأبو بكر . وزيد بن علي . وأبو جعفر { سَيَدْخُلُونَ } مبنياً للمفعول من الإدخال واختلفت الرواية عن عاصم . ، وأبي عمرو .
ومن باب الإشارة : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } قيل أي اطلبوني مني أجبكم فتجدوني ومن وجدني وجد كل شيء فالدعاء الذي لا يرد هو هذا الدعاء ، ففي بعض الأخبار من طلبني وجدني { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى } دعائي وطلبي { سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ } الحرمان والبعد مني { داخرين } [ غافر : 60 ] ذليلين مهينين
قوله تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } أي : اعبدوني دون غيري أجبكم وأثبكم وأغفر لكم ، فلما عبر عن العبادة بالدعاء جعل الإنابة استجابةً .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور بن محمد بن سمعان ، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان عن منصور عن أبي ذر عن يسبع الكندي عن النعمان ابن بشير قال : { سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : " إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ { ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن علي الزرقي ، حدثنا الحسن بن علي بن يوسف الشيرازي ، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى القرشي ببغداد ، حدثنا محمد ابن عبيد بن العلاء ، حدثنا أحمد بن بديل ، حدثنا وكيع ، حدثنا أبو المليح قال : سمعت أبا صالح يذكر عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من لم يدع الله غضب الله عليه " وقيل : الدعاء هو الذكر والسؤال { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } قرأ ابن كثير و أبو جعفر و أبو بكر : سيدخلون بضم الياء وفتح الخاء ، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم الخاء ، ومعنى داخرين صاغرين ذليلين .
قوله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } .
اختلف المفسرون في تأويل قوله : { ادْعُونِي } وفي المراد بالاستجابة . فقد قيل : ادعوني بمعنى اعبدوني فيكون معنى الآية : اعبدوني أثبكم وأغفر لكم ؛ فالدعاء معناه العبادة ويؤيد هذا التأويل ورود الدعاء في كثير من الآيات بمعنى العبادة . وكذلك سياق الآية هنا وهو قوله بعد ذكر الدعاء { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } وفي ذلك روى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الدعاء هو العبادة " .
وقيل : المعنى اسألوني أعطكم . فالدعاء معناه السؤال والطلب .
والصواب : شمول الدعاء للعبادة والسؤال . على أن التوجه إلى الله بالسؤال والطلب لهو ضرب من العبادة ، بل إنه أعظم العبادة وأجلُّها . وفي الحديث الصحيح " الدعاء مخ العبادة " ولا يستنكف عن التضرع إلى الله بالطلب أو يستكبر عن السؤال لدفع الشر وتحقيق الخير إلا خاسر أثيم . وهو قوله سبحانه : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } أي صاغرين ذليلين . وقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يسأل الله يغضب عليه " {[4030]} .
والمؤمن مدعُوٌّ في كل الأوقات أن يستعين بالله فيرتجيه ويسأله مستغيثا به ، طالبا منه العون والصون والتوفيق لدفع المكاره والشرور واستجلاب الحسنات والخيرات والمسرات . وليس للمرء أيُّما غنى عن التضرع إلى الله بالدعاء وهو الطلب المكرور المتواصل في كل الأحيان ، ليدعوه بقلبه الخاضع الخاشع ، ولسانه الذاكر الشاكر من غير أن يستشعر في ذلك ملالة ولا سأما بل يدعو الله ويُلحُّ عليه في الدعاء والرجاء حتى يقضي له بُغيته إن شاء سبحانه . والله جل جلاله يفيض على عباده المؤمنين المخبتين المتضرعين من واسع ملكوته وعظيم فضله ورحمته ما يقضي به حاجات عباده المكروبين ويكفكف عنهم المكاره والنائبات ويُجنِّبهم المزالق والعثرات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.