فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60)

ثم لما بين سبحانه أن قيام الساعة حق وليس بمرتاب فيها . ولا شبهة في مجيئها ، أرشد عباده إلى ما هو الوسيلة إلى السعادة في دار الخلود فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكي عنه ما أمره بإبلاغه وهو : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } قال أكثر المفسرين : المعنى وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم ، وأغفر لكم ، وأجبكم وأثبتكم . وقيل : هذا الوعد بالإجابة مقيد بالمشيئة ، أي استجب لكم إن شئت ، كقوله : { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّه } وقيل : المراد بالدعاء السؤال بجلب النفع ودفع الضر ، قيل : الأول أولى لأن الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو العبادة .

قلت : بل الثاني أولى ، لأن معنى الدعاء حقيقة وشرعا هو الطلب ، فإن استعمل في غير ذلك فهو مجاز ، على أن الدعاء في نفسه باعتبار معناه الحقيقي هو عبادة ، بل مخ العبادة ، كما ورد بذلك الحديث الصحيح ، فالله سبحانه قد أمر عباده بدعائه ، ووعدهم بالإجابة ، ووعده الحق ، وما يبدل القول لديه ، ولا يخلف الميعاد .

وعن ابن عباس قال : وحدوني أغفر لكم ، وقال جرير بن عبد الله اعبدوني ، وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الدعاء الاستغفار ) أخرجه ابن مردويه ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يدع الله يغضب عليه ، أخرجه أحمد والحاكم وابن أبي شيبة . وعن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا ينفع حذر من قدر ، ولكن الدعاء ينفع مما نزل ، ومما لم ينزل ، فعليكم بالدعاء ) ، أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني .

وعن أنس ابن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الدعاء مخ العبادة ) {[1460]} أخرجه الترمذي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وعن ابن عباس قال أفضل العبادة الدعاء ، وقرأ هذه الآية ، وأخرج البخاري في الأدب عن عائشة قالت : سئل النبي صلى الله عليه وسلم ( أي العبادة أفضل ؟ فقال دعاء المرء لنفسه ) . ثم صرح سبحانه بأن هذا الدعاء باعتبار معناه الحقيقي وهو الطلب هو من عبادته فقال :

{ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَْ } قرأ الجمهور بفتح الياء وضم الخاء وقرئ بالعكس مبينا للمفعول { دَاخِرِينَ } أي ذليلين صاغرين ، وهذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله ، وفيه لطف بعباده عظيم ، وإحسان إليهم جليل حيث توعد من ترك طلب الخير منه واستدفاع الشر به بهذا الوعيد البالغ ، وعاقبه بهذه العقوبة العظيمة ، فيا عباد الله وجهوا رغباتكم ، وعولوا في كل طلباتكم على من أمركم بتوجيهها إليه ، وأرشدكم إلى التعويل عليه ، وكفل لكم الإجابة بإعطاء الطلبة فهو الكريم المطلق ، الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم ، وملكه الواسع ما يحتاجه من أمور الدنيا والدين .

وعن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الدعاء هو العبادة ) ثم قرأ : وقال ربكم ادعوني إلى قوله داخرين ، أخرجه الترمذي وقال : حسن صحيح ، والبخاري في الأدب ، وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن حبان والحاكم وصححه ، وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الشعب ، وأحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وسعيد بن منصور والطبراني .


[1460]:الدعاء وهو العبادة أخرجه أحمد 4/271 وغيره.