الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60)

قوله تعالى : " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم " روى النعمان بن بشير قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( الدعاء هو العبادة ) ثم قرأ " وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . فدل هذا على أن الدعاء هو العبادة . وكذا قال أكثر المفسرون وأن المعنى : وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم . وقيل : هو الذكر والدعاء والسؤال . قال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع ) ويقال الدعاء : هو ترك الذنوب . وحكى قتادة أن كعب الأحبار قال : أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم تعطهن أمة قبلهم إلا نبي : كان إذا أرسل نبي قيل له أنت شاهد على أمتك ، وقال تعالى لهذه الأمة : " لتكونوا شهداء على الناس " [ البقرة : 143 ] وكان يقال للنبي : ليس عليك في الدين من حرج ، وقال لهذه الأمة : " وما جعل عليكم في الدين من حرج " [ الحج : 78 ] وكان يقال للنبي ادعني استجب لك ، وقال لهذه الأمة : " ادعوني استجب لكم " .

قلت : مثل هذا لا يقال من جهة الرأي . وقد جاء مرفوعا ، رواه ليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا للأنبياء كان الله تعالى إذا بعث النبي قال : ادعني استجب لك . وقال لهذه الأمة : " ادعوني استجب لكم " وكان الله إذا بعث النبي قال : ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة : " وما جعل عليكم في الدين من حرج " [ الحج : 78 ] وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الأمة شهداء على الناس ) ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول . وكان خالد الربعي يقول : عجيب لهذه الأمة قيل لها : " ادعوني استجب لكم " أمرهم بالدعاء ووعدهم الاستجابة وليس بينهما شرط . قال له قائل : مثل ماذا ؟ قال : مثل قوله تعالى : " وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات " [ البقرة : 25 ] فها هنا شرط ، وقوله : " وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق " [ يونس : 2 ] ، فليس فيه شرط العمل ، ومثل قوله : " فادعوا الله مخلصين له الدين " [ غافر : 14 ] فها هنا شرط ، وقوله تعالى : " ادعوني استجب لكم " ليس فيه شرط . وكانت الأمة تفزع إلى أنبيائها في حوائجها حتى تسأل الأنبياء لهم ذلك . وقد قيل : إن هذا من باب المطلق والمقيد على ما تقدم في " البقرة " {[13387]} بيانه . أي " استجب لكم " إن شئت ، كقوله : " فيكشف ما تدعون إليه إن شاء " [ الأنعام :41 ] . وقد تكون الاستجابة في غير عين المطلوب على حديث أبي سعيد الخدري على ما تقدم في " البقرة " بيانه فتأمله هناك . وقرأ ابن كثير وابن محيصن ورويس عن يعقوب وعياش عن أبي عمرو وأبو بكر والمفضل عن عاصم " سيدخلون " بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله . الباقون " يدخلون " بفتح الياء وضم الخاء . ومعنى " داخرين " صاغرين أذلاء وقد تقدم{[13388]} .


[13387]:راجع ج 2 ص 309 طبعة ثانية.
[13388]:راجع ج 10 ص 111 و ج 13 ص 242 طبعة أولى أو ثانية.