مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60)

قوله تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين * الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون * ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون * كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون } .

اعلم أنه تعالى لما بين أن القوم بالقيامة حق وصدق ، وكان من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بطاعة الله تعالى ، لا جرم كان الاشتغال بالطاعة من أهم المهمات ، ولما كان أشرف أنواع الطاعات الدعاء والتضرع ، لا جرم أمر الله تعالى به في هذه الآية فقال : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } واختلف الناس في المراد بقوله { ادعوني } فقيل إنه الأمر بالدعاء ، وقيل إنه الأمر بالعبادة ، بدليل أنه قال بعده { الذين يستكبرون عن عبادتي } ولولا أن الأمر بالدعاء أمر بمطلق العبادة لما بقي لقوله { إن الذين يستكبرون عن عبادتي } معنى ، وأيضا الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن كقوله { إن يدعون من دونه إلا إناثا } وأجيب عنه بأن الدعاء هو اعتراف بالعبودية والذلة والمسكنة ، فكأنه قيل إن تارك الدعاء إنما تركه لأجل أن يستكبر عن إظهار العبودية وأجيب عن قوله إن الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن ، بأن ترك الظاهرة لا يصار إليه إلا بدليل منفصل ، فإن قيل كيف قال : { ادعوني استجب لكم } وقد يدعى كثيرا فلا يستجاب أجاب الكعبي عنه بأن قال : الدعاء إنما يصح على شرط ، ومن دعا كذلك استجيب له ، وذلك الشرط هو أن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة وحكمة ، ثم سأل نفسه فقال : فما هو أصلح يفعله بلا دعاء ، فما الفائدة في الدعاء ؟ وأجاب : عنه من وجهين : ( الأول ) أن فيه الفزع والانقطاع إلى الله ( والثاني ) أن هذا أيضا وارد على الكل ، لأنه إن علم أنه يفعله فلا بد وأن يفعله ، فلا فائدة في الدعاء ، وإن علم أنه لا يفعله فإنه البتة لا يفعله ، فلا فائدة في الدعاء ، وكل ما يقولونه هاهنا فهو جوابنا ، هذا تمام ما ذكره ، وعندي فيه وجه آخر وهو أنه قال : { ادعوني استجب لكم } فكل من دعا الله وفي قلبه ذرة من الاعتماد على ماله وجاهه وأقاربه وأصدقائه وجده واجتهاده ، فهو في الحقيقة ما دعا الله إلا باللسان ، أما بالقلب فإنه معول في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله ، فهذا الإنسان ما دعا ربه في وقت ، أما إذا دعا في وقت لا يبقى في القلب التفات إلى غير الله ، فالظاهر أنه تحصل الاستجابة ، إذا عرفت هذا ففيه بشارة كاملة ، وهي أن انقطاع القلب بالكلية عما سوى الله لا يحصل إلا عند القرب من الموت ، فإن الإنسان قاطع في ذلك الوقت بأنه لا ينفعه شيء سوى فضل الله تعالى ، فعلى القانون الذي ذكرناه وجب أن يكون الدعاء في ذلك الوقت مقبولا عند الله ، ونرجو من فضل الله وإحسانه أن يوفقنا للدعاء المقرون بالإخلاص والتضرع في ذلك الوقت ، واعلم أن الكلام المستقصى في الدعاء قد سبق ذكره في سورة البقرة .

ثم قال تعالى : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } أي صاغرين وهذا إحسان عظيم من الله تعالى حيث ذكر الوعيد الشديد على ترك الدعاء ، فإن قيل روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال حكاية عن رب العزة أنه قال : «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين » فهذا الخبر يقتضي أن ترك الدعاء أفضل ، هذه الآية تدل على أن ترك الدعاء يوجب الوعيد الشديد ، فكيف الجمع بينهما ؟ قلنا لا شك أن العقل إذا كان مستغرقا في الثناء كان ذلك أفضل من الدعاء ، لأن الدعاء طلب للحظ والاستغراق في معرفة جلال الله أفضل من طلب الحظ ، أما إذا لم يحصل ذلك الاستغراق كان الاشتغال بالدعاء أولى ، لأن الدعاء يشتمل على معرفة عزة الربوبية وذلة العبودية .