اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60)

قوله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ . . . } الآية لما بين أن القولَ بالقيامة حق وكان من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بطاعة الله تعالى أو التضرع عليه لا جَرَمَ كان الاشتغال بالطاعة من أهم المُهِمّات ، ولما كان أشرفَ أنواع الطاعات الدعاءُ والتضرعُ لا جَرَمَ أمر الله تعالى به فقال : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ } .

واختلفوا في المراد بقوله «ادعوني » فقيل : المراد منه الأمر بالدعاء ، وقيل : الأمر بالعبادة بدليل قوله بعده : { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } ، وأيضاً الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن كقوله : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً } [ النساء : 117 ] . وأجاب الأوّلونَ بأن هذا ترك للظاهر فلا يُصَار إليه إلا بدليل .

فإن قيل : كيف قال : «ادعوني أستجب لكم » ، وقد يُدْعَى كثيراً فلا يستجاب ؟

وأجاب الكَعْبِيُّ بأن الدعاء إنما يصح بشرط ، ومن دعا كذلك يستجيب له ، وذلك الشرط هو أن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة وحكمة .

ثم سأل نفسه فقال : إن الله تعالى يفعل ما هو الأصلح بغير دعاء فما الفائدة في الدعاء ؟

وأجاب عنه بوجهين :

الأول : أن فيه الفزعَ والانقطاعَ إلى الله تعالى .

الثاني : أن هذا أيضاً وارد على الكل لأنه إن علم أنه يفعله فلا بدّ وأن يفعله ، فلا فائدة في الدعاء وإن علم أنه لا يفعله فإنه البتة لا يفعله ، فلا فائدة في الدعاء أيضاً ، فكل ما يقولونه ههنا فهو جوابنا{[48356]} .

قال ابن الخطيب : وعندي وجه آخر وهو أنه قال : ادعوني أستجيب لكم ، وكل من دعا الله وفي قلبه ذَرّة من الاعتماد على ماله وجاهه وأصدقائه واجتهاده فهو في الحقيقة ما دعا الله إلا باللسان وأما القلب فإنه يعول في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله ، فهذا اللسان ما دعا ربه ، أما إذا دعا في وقت لا يكون القلبُ فيه ملتفتاً إلى غير الله فالظاهر أن يستجاب له{[48357]} .

قوله : { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } وهذا إحسانٌ عظيمٌ من الله تعالى حيث ذكر الوعيد الشديد على ترك الدعاء . وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ لَمْ يَدْعُ اللهَ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ »{[48358]} .

فإن قيل : إنه صلى الله عليه وسلم قال حكاية عن ربه عزّ وجلّ : «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أعْطِي السَّائِلينَ »{[48359]} .

فهذا يقتضي أن ترك الدعاء أفضل ، وهذه الآية تدل على أن ترك الدعاء يوجب الوعيد الشديد فكيف الجمع بينهما ؟

فالجواب : لا شك أن العقلَ إذا كان مستغرقاً في الثناء كان ذلك أفضلَ في الدعاء لأن الدعاء طلب الجنة ، والاستغراق في معرفة جلال الله أفضل من طلب الجنة ، أما إذا لم يحصل الاستغراق كان الاشتغال بالدُّعَاء أولى ؛ لأن الدعاء يشتمل على معرفة الربوبية{[48360]} وذُلّ العبودية .

قوله : «سَيَدْخُلُونَ » قرأ ابن كثير وأبو جعفر «سَيُدْخَلُونَ » بضم الياء وفتح الخاء ، والآخرون بفتح الياء وضم الخاء{[48361]} «دَاخِرِينَ » صاغرين ذَلِيلِينَ .


[48356]:أورده الرازي في تفسيره 27/81.
[48357]:ذكره في المرجع السابق.
[48358]:أخرجه البغوي في تفسيره عن أبي صالح عن أبي هريرة. البغوي 6/101، كما ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره عن مرة عن أبي صالح عن أبي هريرة. ابن كثير في تفسيره القرآن العظيم 4/85.
[48359]:الرازي 27/81.
[48360]:المرجع السابق.
[48361]:من الأربع فوق العشر المتواترة انظرها في الإتحاف 379، والوجهان عن أبي بكر عن طريق يحيى بن آدم.