تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60)

الآية 60 وقوله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } إن الآية نزلت في أهل التوحيد . يقول : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ثم يخرّج على الاستغفار مرة لما كان منهم من التضييع في حقوق الله تعالى وما أمرهم به ، ونهاهم عنه ، والتفريط في ذلك : استغفروني{[18336]} أغفر لكم .

ويحتمل : { ادعوني أستجب لكم } اطلبوا مني التوبة عن ذلك أتب{[18337]} عليكم ، والله أعلم .

وإن كانت الآية في أهل الكفر فيكون قوله : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } أي وحّدوني أغفر لكم . ويحتمل : اعبدوني اغفر لكم ، وهو كقوله : { إن ينتهوا يُغفر له ما قد سلف } [ الأنفال : 38 } .

وقد جاء في بعض الأخبار عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الدعاء هو العبادة ثم قرأ : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ) [ أبو داوود : 1479 ] وفي بعض الأخبار : ( الدعاء مُخّ العبادة ) [ الترمذي : 3371 ] .

وأصل هذا أنه ينظر كل أحد إلى ما ارتكبه ؛ فإن كان شيئا يستوجب به العقوبة كان استغفاره القيام بقضاء ما تركه وضيّعه ، والعزم على ألا يعود إلى ذلك أبدا ، وإن كان شيئا غير معروف ، وتركه ، يستغفر الله تعالى في ذلك ، ويطلب منه التجارة والمغفرة ، والله أعلم .

وأصل ذلك ما قال الله تعالى : { وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم } [ البقرة : 40 ] وقوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي } [ البقرة : 186 } ذكر بالشريطة ، وهي{[18338]} أنهم إذا آمنوا به ، وأوفوا بعهده يوفِ{[18339]} لهم ذلك ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } استدل بعض الناس بهذه الآية على أن قوله : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } إنما أراد به العبادة على ما ذكرنا .

فإن قيل : إن هذه السورة نزلت بمكة ، وأهل مكة كانوا يقولون : { ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] وفي ظاهر ذلك أنهم لا يستكبرون عن عبادته ، لكنهم لم يروا أنفسهم أهلا لعبادة الله ، فعبدوا غيره دونه ، كمن يعظّم ، ويخدم خادما من خدم ملك من ملوك الدنيا ، لا يكون مستكبرا عن خدمة الملك . لكن تأويل الآية يخرّج على وجهين :

أحدهما : أن الله تعالى أمر عباده بطاعة رسوله والإجابة له إلى ما يدعوهم . فإذا لم يجيبوه إلى ما يدعوهم إليه ، ولم يطيعوه استكبارا منهم وتكبّرا عليه صار ذلك منهم كالاستكبار عن طاعة الله وعن عبادته .

والثاني : أنهم ، وإن كانوا عبدوا الأصنام رجاء أن تقرّبهم ، ولم يقصدوا قصد الاستكبار عن عبادته ، فهم ترموا عبادته ، مع أنهم أُمروا ، وبلغ إليهم أمره على ألسن الرسل ، فكأنهم استكبروا عن عبادة الله تعالى ؛ إذ في الشاهد يخدم المرء بعض خواص الملك ليقرّبه إليه ، لكن إذا أمره الملك أن يخدمه ، وقرّبه إلى مجلسه ، فامتنع ، يقدّر ذلك منه استكبارا ، وتتبين أن خدمته لذلك ما كانت لتقرّبه إلى الملك حين{[18340]} قرّبه ، فلم يُقرَّب . ففي الغالب كذلك . لذلك كان استكبارا منهم ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } قال القتبي : وأبو عوسجة : { داخرين } صاغرين ذليلين .


[18336]:في الأصل وم: استغفروا.
[18337]:في الأصل وم: أتوب.
[18338]:في الأصل وم: وهو.
[18339]:في الأصل وم: يعرف.
[18340]:في الأصل وم: حيث.